ادارة النزاع في اوكرانيا بين المقاربة الامنية الروسية والامريكية
كتاب : ادارة النزاع في اوكرانيا بين المقاربة الامنية الروسية والامريكية
المؤلفين: أ. خالد بومنجل – أ. مجيب الرحمان المهدي فارق
تحتل روسيا موقعا استراتيجيا على الخريطة العالمية، يشير إليه المفكرون بقلب العالم، وهذا الموقع يمنح لروسيا القدرة على التموقع ضمن الفاعلين في السياسة العالمية، فهو حصن جغرافي منيع إذا ما أرادت التقوقع وانتظار الهجمة في حالة الدفاع، وقاعدة انطلاق متينة إذا ما أرادت الهجوم والتوسع إذ يكفينا القولأن جيوش الثورة الفرنسية لنابليون، وجيوش النازية لهتلر هزمت على حدود أراضيها ليدرك القارئ مدى أهمية الموقع من الناحية الدفاعية، بينما من الناحية الهجومية يكفينا أن نلقي نظرة على التاريخ لنجد روسيا القيصرية، والاتحاد السوفيتي، وهذا الأخير الذي كان ميزان القوة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي عرفت كيف تزيل السوفييت من طريقها لتبقى وحيدة في القيادة العالمية.
انهار الاتحاد السوفيتي وظهرت الوريثة روسيا، التي أخذت كل تركة السوفييت من عوامل الضعف والقوة ، فكان الموقع أول عوامل القوة والترسانة النووية ثانيها، والفيتو ثالثها، ولكنها ورثت عنه مشاكله المالية، وضعفه الاقتصادي، ما جعلها تلعب دورا محدودا على الصعيد الإقليمي، ودورا ثانويا على المستوى الدولي، خصوصا في عهد الرئيس بوريس يلتسنالذي تبنىمنهجين في السياسة الخارجية الروسية اتجاه الولايات المتحدةالأمريكية.
قام النهج الأولعلى ضرورةالاندماج في المنظومة الغربية،باعتبار أن ذلك يساعد روسيا في معالجة مشاكلها خصوصا الاقتصادية،فكان أول قرار ليلتسنأن تخلى عن الشيوعية، و اتخذ نهجا لبراليا بما يتيح لروسيا عقد شراكاتمع الغرب، وبالتالي التقدم على الصعيد الاقتصادي بما يعيد لها مجدها الغابر، فبدأت أمريكا تساومها على إظهار حسن النية، وتقديم التنازلات بغية قبولها ضمن المنظومة الغربية. ولأن روسيا ليست أي دولة،فإنهالم تقبل لعبة التنازلات، فهي معتادة على لعب دور الفاعل في العلاقات الدولية، فلم يذكرها التاريخ يوما، إلا وهي دولة محورية مؤثرة في السياسة العالمية، فقد اختار يلتسن استعادة الأمجاد بدءا من القوة الأساسية، و هي الموقع وما يمنحه ذلك من قدرات جيوستراتيجية واقتصادية، فكان هذا ما جعله يدرك النهج الثاني، الذييقوم على الاتجاه الأوراسي وفق مبدأ “الأوراسية الجديدة”،الذي يبنى بالأساس على هيمنة روسيا في مناطق نفوذ السوفييت من جمهوريات مستقلة.
وبين النهج الأول والثاني، ظهر النهج الثالث الذي يوازن بين مصالح روسيا باتجاه الغرب والمنظومة الأمريكية ـ الأوروبية، والموازنة مع الشرق بتبنيسياسة تأخذ بعين الاعتبار مصالح روسيا في ( آسيا الوسطى والصين)، وتقوية العلاقات مع الدول الكومنولث الروسي الذي اصطلح عليه اسم الخارج القريب، و كذلك بناء ائتلاف جغرافي -سياسي مرن تحت اسم المثلث الكبير يضم روسيا والصين والهند، بحيث يشكل ثقلا موازنا للحلف الناتو،الذي لم ينسى يوما قوة الموقع الاستراتيجي الروسي، ولا تفوق الروس في مجال الأسلحة الاستراتيجية، فبدأ بمد نفوذه إلى الحدود الروسية، بما يضيق الخناق على ما يعرف لدى الاستراتيجيين بالقوة البرية، فأصبحت روسيا تنظر بعين الريبة والشك إلىالجناح العسكري للغرب الذي أصبح ينافسها على مجالها الاستراتيجي، بما يمنعها من التمتع بمميزات موقعها في قلب الأرض، ويحد من قدرتها بما ينعكس على دورها في المستوى الإقليمي والدولي، عبر ما تراه يدخل في إطار حصرها في مجال جيوبوليتيكي ضيق.
قلب الأرض أو القوة البرية كانت بحاجة إلى قيادة قوية لاستعادة المكانة والدور الريادي في السياسة الدولية، فجاء القيصر فلاديمير بوتين سنة 1999، ما أدى إلى تغير معالم السياسة الخارجية الروسية، حيث رسم الرئيس الجديد سياسية خارجية قائمة على تحقيق الأهداف الروسية القومية والدفاع عنها، ونهاية سلسة التنازل العشوائي لصالح أمريكا،فأقام علاقات متميزة مع حلفاء الاتحاد السوفيتي السابقين الصين والهند وإيران وكوريا الشمالية، وكان الهدف استعادة روسيا للمكانة الدولية وإنهاء الانفراد الأمريكي بالزعامةمنذ نهاية الحرب الباردة.
كان على رأس أولويات بوتين النهوض بالاقتصاد الوطني، والذي تمت هيكلته من خلال عاملي الطاقة وصادرات السلاح، ومن ثم ترشيد توظيف الموردين لخدمة الأهداف الوطنية، حيث تم تسديد الديون الروسية سنة 2002 ، و تم توفير احتياطي صرف بلغ 600 مليار دولار سنة 2005 و 800 مليار دولار في سنة 2006، ما جعل روسيا تقفز إلى المرتبة الثانية في احتياطها من الذهب والعملة الصعبة بعد اليابان، كما أن روسيا تحقق نموا سريعا يقدر بـ7% لتصبح بهذا قوة اقتصادية، ما ساعدها على الدخول في نادي مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، كما برزت الاستعدادات العسكرية في اجتياحهالجورجيا، بينما على المستوى الدبلوماسي فتبرز بقوة، من خلال العديد من المواقف الدولية ضد الهيمنة الأمريكية، التي لم يكن أحد يعارضها منذ اختفاء السوفييت، وهي قادرة إلى اليوم على حفظ مكاسبها الاستراتيجية بدءا بسوريا أين تصون مكاسبها بالتواجدعسكريا في قاعدة طرطوس البحرية، زيادة على العلاقاتالمميزةمع مجموعة البريكس التي تعتبر قوة موازية لمجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى اقتصاديا، و حتى سياسيا أين تندد البريكس بسياسات الولايات المتحدة الأمريكية اتجاه العديد من القضايا الدولية.
أما أمريكا باعتبارها قوة عظمى ومهيمنة على الساحة الدولية، فهي تحاول الحفاظ على الوضع الراهن الذي يضمن بقاء سيطرتها العالم وإزاحة المنافسين بالأخص روسيا، التي تعتبر وحدها فقط التهديد الذي يأتي في المرتبة “أ” كونها الدولة الوحيدة القادرة على منافسة أمريكا عسكريا من خلال ترسانتها النووية، وتفوقها في مجال الصواريخ الاستراتيجية، حيث تحاول أمريكا جاهدة تعويض التفوق الروسي من خلال حصر روسيا في مجال جيوبوليتيكي ضيق، ونشر دروع صاروخية على مقربة من الحدود الروسية بما يقلل من أخطار التفوق الروسي، وهكذا بدأتأمريكا توسع حلف الناتو إلى حدود روسيا من خلال ضم دول البلطيق ودول أوروبا الشرقية،وبدأت في انجاز مشاريع للدروع الصاروخية في بولندا وتشيكيا، وتحاول ضم المزيد من الدول لاحتواء روسيا كان آخرها أوكرانيا بما ينذر بمنافسة حادة مع روسيا على المجال الأوكراني، خصوصا وأن روسيا أصبحت تعارض أمريكا علنا وتريد رسم عالم متعدد الأقطاب تكون روسيا أحد أطرافه.
امتد التنافس الاستراتيجي بين روسيا وأمريكا إلىأوكرانيا بما جعلها تنقسم على نفسها إلى قسمين قسم غربي يدين بالولاء إلى أمريكا وأوروبا وقسم شرقي يدين بالولاء إلى روسيا، وبين محاولة أمريكا حصر الروس في حدوهم الجغرافية، ورغبة الروس في منعهم واكتساب المكانة الدولية، اشتد النزاع داخل أوكرانيا بإدارة من القوى الخارجية التي تحاول تحقيق مصالحها الإستراتيجية.
الناشر: المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية
لتحميل الكتاب PDF من ( مكتبة دار بن حبتور ) من هنـــــا
أضف تعليق