اسئلة في المواطنة والتراث... محاضرة علمية ألقيت في ندوة لمؤسسة أبتيس الفرنسية د/ آلاء أحمد الأصبحي
يُمثل التراث بكل أنواعه قيمًا إنسانية متجددة ومتجذرة في أبعادها الزمنية، وتتضح معالم هذه القيم في الحكمة والمعارف، التي لا تنحصر ضمن فترة زمنية موروثة فحسب، بل كقيمة حاضرة في حياتنا وسلوكنا، تتدفق بسلاسة نحو مستقبلنا وتحدد فيه معالم أفكارنا وتوجهاتنا نحو الكون والإنسان.
ونحتاج في زمننا الحاضر أن نستوعب مفهوم التراث بقِيَمه الزمنية الثلاث (الماضي والحاضر والمستقبل)، فمن يقوم بصناعة هذا التراث هي الأفكار التي كنا نحملها بالأمس ونحملها اليوم، ونترجمها بأفعالنا ونحققها بموادنا الثقافية اليوم وغدًا.
يقدم هذا المقال رؤية تكونت كحصيلة لعملية اطلاع واسعة على تجارب عربية في مجال التراث بأنواعه، ومن خلال خبرة عملية لتجربة المواطنة ضمن فكرة تأسيس مركز ثقافي تراثي حرفي في مدينة صنعاء، تم تأسيسه منذ سبعة أعوام، وتفعلت أعماله منذ أربعة أعوام.
وعلى غير ما عهده القارئ من أن يتلقى ضيف المجلة الأسئلة ويقوم بالإجابة عنها، فقد اخترنا أن نعرض المقال على هيئة سؤال وجواب من كاتب المقال؛ لتسهيل سماع الحوار الداخلي الذي دفع الكاتب إلى هذا الأسلوب.
يوضح المقال رؤية لكيفية التحرك من خلال المواطنة لتفعيل التراث وفق أزمنة ثلاثة: الماضي ممثلًا بالحفاظ، والحاضر ممثلًا بالاستدامة والممارسة من خلال المواطنة الواعية لصناعة تراث يتم تمريره باقتدار ومرونة، لزمن المستقبل حاملًا معه معايير نهضة قادمة.
سيكون عرض المحاضرة ضمن منهجية تساؤلات وإجابات اجتهادية تُعرض على حضراتكم وفْقَ تدرج منطقي لهذه الرؤية، وبحسب ما خبرناه في تجربتنا لبعض أجزائه.
تهدف هذه الرؤية إلى إعادة التفكير بالتراث، وعرض طريقة تفكير يتم ممارستها من خلال أداة المواطنة كأداة تغيير متحركة بين الأزمنة الثلاثة ورابطة فيما بينها، وهي رؤية تطمح إلى الخروج عن النمط السائد والتقليدي في التعامل مع التراث، وتسعى لمحاولة تفعيل التعامل معه بوعي وتأصيل؛ لذا لا بد لنا كبداية من التعرف على التراث في عجالة سريعة عبر أول سؤال:
ما هو التراث؟
التراث قديم قِدَمَ الإنسان نفسه، منه الشفوي الذي تم نقله من شخص إلى آخر عبر الرواية الشفوية أو الممارسة السلوكية، ومنه ما تركه الناس القدماء كأثر مادي أو دوّنوه في مخطوطاتهم القديمة.
ويشمل التراث الطبيعي، ويضم التكوين الفسيولوجي، والجيولوجي، والحيواني، والنباتي. وهنالك تراث متنوع، ويضم الحدث التاريخي، والإبداع، واللوحة الفنية، والاختراع العلمي، والنحت، والبناء المعماري، والتصميم الداخلي، والمثل شعبي، والتقاليد الخاصة، والتراث الجغرافي، والتراث الديني، والتراث الإنساني، وغيرها الكثير من الاشتقاقات والتنويعات والتصنيفات.
والتراث الشعبي:
الذي يضم: (العادات والتقاليد، أنواع الرقص، الاحتفالات والأعياد الدينية، الآراء، المفاهيم الخرافية، الفنون والحرف، الأفكار، الألغاز والأحاجي، اللعب في زمن الصبيان واللهو في زمن الشباب، المشاعر، الحكايات الشعرية للأطفال، الأغاني، الأمثال السائرة - وهي الأمثال في الكتب الإلهية والكلمات النبوية، وذاعت في عبارات البُلغاء، وإشارات الحكماء).
بالإضافة إلى الحكايات الشعبية، التي تمثل الجزء الأكبر من التراث الشعبي ويندرج تحتها المصنفات، مثل: قصص الجن الشعبية، والقصص البطولية، والأساطير، والأشعار، والقصائد الغنائية.
وبالطبع، لكلٍّ من هذه الأنواع التي ذكرتها خصوصيتها وتفرّدها؛ لذا لا بد من الوعي بمحدداتها وأطرها، ليسهل التعامل الواضح معها.
هذا التعامل لا يكون إلا بفهم مستويات ومفهوم التراث، الذي يؤدي بنا إلى السؤال الآتي:
ما هو مفهوم التراث وما مستوياته؟
ما زال التراث في عالمنا العربي مُحدِّدًا لسلوك الناس في الحياة اليومية، ومحاطًا بالمدح والتقديس، أو بالانغماس فيه؛ هربًا من الواقع الصعب، في الوقت الذي انطلق فيه الغير علميًّا وحضاريًّا من الواقع، ونقد التراث، بل وهدمه ثم أنتج ما هو أفضل، ويتوافق مع معطيات عصره.
فالتراث يؤثّر في حياتنا اليومية؛ كونه يمثل كل ما وصل إلينا من الماضي داخل حضاراتنا السائدة، فما زلنا نعطي الأولوية للكلي النظري على حساب الكُلي العملي، على سبيل المثال: أغلب تعاملنا مع المكونات الزخرفية الفنية للتراث الشعبي، كمسلمات صورية مجردة من أصالة معانيها، وفلسفة أفكار اختزالها، وكيفية تطورها وانتقالها؛ فلا نجد من الأبحاث إلا ما ندر لتلك القراءات التحليلية والنقدية لسفر هذه الزخارف الرمزية عبر الزمن ونستقبلها في زمننا الحاضر مبهمة وصامتة بكليتها النظرية، ومنزوعة من كليتها العملية في غاية تكوينها وتطورها، ليصبح التراث غير مطلوبٍ لذاته، بل هو وسيلة لتفسير الواقع وتطويره، فهو نظرية للعمل، وموجه للسلوك، وذخيرة قومية، يمكن اكتشافها واستغلالها واستثمارها من أجل إعادة بناء الإنسان وإفادته.
إن فرصة تحليل التراث هو مدخل لتحليل عقليتنا، التي وصلنا لها في زمننا المعاصر، ضمن تراكمات شكّلت أسبابًا ومعوقات تعيق حركة نهضتنا التراثية، فالتراث ليس مجرد مخزونٍ مادي أو كيان صوري نظري قائم بذاته ومخزون لدى الجماهير، إنما يتشكل هذا المفهوم ضمن مستويات تظهر الهُوية والسلوك والنهضة والتنمية والتجديد الذي يُعدّ مشروعًا حضاريًّا قوميًّا.
ففي مستوى ممارسة الهوية التراثية تشكل هذه الهوية عنصرًا حيًّا تقوم عليه حياتنا في الحاضر، وقد يستمر في المستقبل. وعلى مستوى السلوك، ما يسجله الإنسان من أعماله في سجلات مصنفة، ليصبح المخلوق الوحيد الذي له ماضٍ شفهي، ومدون وتاريخ يعكس حياته ومسلكه.
أما على مستوى النهضة فهي تسبق التنمية، وهي شرط لها، بمعنى أن النهضة ليست هي الغاية، بل الغاية هي استمرار هذه النهضة، وهذا يجعلنا ننتقل من وضع النهضة على قمة الهرم كهدف للوصول إليه، إلى وضعه على خط مستمر تحركه التنمية.
لذا، فالتراث والتجديد يؤسسان فكرًا جديدًا، وهو وصف الحاضر وكأنه ماضٍ يتحرك، ووصف الماضي على أنه حاضر معاش بقيمه التي تؤسس مصلحة الإنسانية والعدل والحق والجمال.
ننتقل الآن إلى مفهوم المواطنة؛
ما هي المواطنة؟ وما الفرق بينها وبين الوطنية؟ وما العلاقة بينها وبين التراث الشعبي؟
بداية لنحدد المفاهيم؛ يوجد كثير من الخلط لعدة مفاهيم، التي تمس بالتالي قضايا رئيسية في العمل والمشاركة المدنية، كاللَّبس بين مفهوم المواطنة والوطنية، فالوطنية هي تلك التي تُعنى بحب الوطن من الناحية الوجدانية، ويستوعب فيها الفرد معالم ثقافته بشكل مجمل، لا تندرج التفاصيل من ضمن أولوياته. بينما المواطنة هي تلك الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها وتفرض عليه التزامات تؤدي به إلى المشاركة في أمور وطنه؛ لذا تتحدد في هذا المفهوم العلاقة بين الدولة والفرد المدني، وانتمائه وولائه.
تتكرر العلوم القديمة في العصر الحديث المختلف عنها بأدواته ومعاييره، بغير محاولة نقدها وإعادة بنائها، ولا يتم الربط بين هذه العلوم والمعارف وبين السياق التاريخي الذي نشأت فيه وبين الواقع الذي أفرزها
فالمواطنة فعليًّا مكونة من ثلاثة عناصر أساسية، هي: العنصر المدني، والعنصر السياسي، والعنصر الاجتماعي، التي تشكل بمجملها حقوق المواطن المدنية، التي يندرج فيها الحق في التفكير؛ لذا لا بد لنا أن نتعرف على علاقتنا كمواطنين بالتراث، وكيف نقوم بمهامنا التراثية من خلال المواطنة، فالتراث يعدُّ أحد أهم ركائز المواطنة، التي لا تحمل في معناها حب الوطن الوجداني، بل تعني القيام بالدور المنوط بهذا المواطن تجاه تراثه وتاريخه، وتمتد عبر ممارسة المواطنة التي تمثل أداة حية لإعادة اكتشاف التاريخ، الذي نحن في حاجة ملحة إلى تجديد استقرائه كمطلب ثوري؛ فالتراث الشعبي هو المخزون النفيس عند الجماهير، يمدها بتصوراته عن العالم، وقيمه في السلوك الإنساني في تنميته ونهضته.
إذا أردنا الحفاظ على التراث واستدامته، فلا بد لنا من التفكير جديًّا في مقومات المواطنة لتفعيلها باتجاه هذا الرافد، ومن هنا تأتي مسؤولياتنا، كمؤسسات مجتمع مدني، في رفع ركيزة الوعي بالمواطنة ودورها تجاه قضية التراث، فالتراث اليوم يواجه تحديات طارئة على تكوينه؛ بسبب عدة عوامل، منها العولمة، التي ناقشها الكثيرون، ومنها ما نتعرض له اليوم من حروب اتخذت شكلًا مغايرًا عمّا ألفناه في السابق، هذه الحروب المغايرة والمسيطرة لتوجهات الفكر الإنساني، جعلتنا نتأمل بأننا اليوم لا نعاني من قلة الموارد بل من ضحالة الفكر، الذي هجرنا منه الكثير من معرفتنا بجوهره، وصار تقلبنا وتثاؤبنا، بسبب إيقاع العصر الحديث، يمتد ويهتم بالتركيز في التراث على الشكل والمظهر، مغفِلًا مضامينه الفكرية والأسس والاحتياجات الإنسانية التي نبع منها، وهذا انعكس على باقي النواحي الفنية والفكرية، وبات واضحًا للعيان ذلك الهذيان الأجوف.
ماهي مشكلتنا في التعامل مع التراث؟
تكمن مشكلتنا في التعامل مع التراث عبر إسقاطه الزمني الماضي على الزمن الحاضر بدون فرز؛ فالتعامل مع التراث القديم يتم بنقل علومه كلها من غير تطوير أو اختيار، وتوضع في مستوى واحد مع الحاضر ومعطياته، وهذا أمر يشكّل خطورة على مفهوم التراث واستدامة قيمته؛ لأنه يعتمد على نقل أقصى ما يمكن من العلم والمعرفة بأساليبها القديمة المنتمية إلى عصرها، فتتكرر العلوم القديمة في العصر الحديث المختلف عنها بأدواته ومعاييره، بغير محاولة نقدها وإعادة بنائها، ولا يتم الربط بين هذه العلوم والمعارف وبين السياق التاريخي الذي نشأت فيه وبين الواقع الذي أفرزها.
وهو الأمر الذي جعل الأزمة قائمة، وصار التراث القديم لا يتفاعل بإيجابية مع الوافد ولا مع الواقع الحالي، وصارت حالة استدامته تعتمد تشويهه أكثر من حمايته والحفاظ عليه.
لذا لا بد من إحداث تفاعل إيجابي بين التراث وكوامنه الفكرية والفلسفية، وبين العصر الحاضر وقضاياه المعاصرة، التي لا تكون إلا عبر إعادة قراءة التراث القديم وإعادة بنائه، والوصول إلى فلسفة جديدة، بعقلية المجتهد، الأمين على الحكمة، والواعي بمصالح الأمة، وذلك عبر تفعيل دور المواطنة الواعية والمسؤولة والمشاركة، وبممارسة المواطنة التي تتفاعل بوعي نحو التجديد الدائم، في حالة من التوسع والتوالد من أسس حقيقية ومتينة، مرتبطة بالتراث كأساس تغيير اجتماعي، وعلى نحو طبيعي ضمن تراتب تاريخي منطقي، لا ينقل فقط، بل يختار ويتفاعل ويُنتج.
هنا ننتقل من بيان مشكلتنا في التعامل مع التراث، إلى تساؤل جديد:
ماهي حاجتنا وهدفنا من التراث؟ وكيف يمكننا أن نحقق منه فوائده المرجوّة، التي تخدم حاجاتنا وتلبي معايير عصرنا الزمني في الوقت ذاته؟
حاجتنا للتراث تبرز من خلال أثره الواضح في سلوك المواطن، فما زال التراث حيًّا في قلوب الناس، وما زال يمثُل في ذهنيتنا العربية السائدة تأثيره السلبي والإيجابي. فنحن نلجأ إليه ساعة الأزمات، ونحجم به عوائد الدهر، فهو بذهنية العامة مطلق، ويصنع لهم معايير السلوك ويحدد تصوراتهم للعالم، وهو أكثر وضوحًا من الحاضر نفسه؛ لأن حضوره معنوي ومادي، عقلي وحسي؛ لذا تتحقق فوائده من خلال تحديد حاجاتنا منه، وهذا يقودنا إلى السؤال:
ما هي حاجتنا للتراث في العصر الحاضر كمواطنين؟
الحاضر هو الحالة الزمنية الوحيدة التي نمتلكها هنا والآن، وانتماؤنا الزمني لها يمتد إلى أي علاقة قد تظهر من زمن آخر، مهما بعُد أو قرب. وبما أن التراث حالة تطرأ من الزمن الماضي نتوارثها، وقد نمارسها في بعض مجتمعاتنا، فإنه لا بد من أن نعدّها أحد ركائز انتمائنا الوطني، ومعقل قوة لا يستهين بها إلا من يجهلها؛ ذلك أننا في أزمة علاقة بيننا كمواطنين، وبين تراثنا الذي ورثناه، ولا نعرف كيف نتصرف معه، بل في أحيان كثيرة لا يقدّره الكثير منا أو حتى يعرفونه.
لذا نحن بحاجة لقراءة فكرية واضحة، وسلامة أسلوب؛ لإقرار التعامل مع التراث ضمن منهجية ورؤية مختلفة، بحيث تجعل المقروء معاصرًا لزمنه، وجعله معاصرًا؛ كي يصل بنا إلى نتيجة ممكنة من خلال ممارسة المواطنة.
لذا ينبغي علينا أن ننظر للتراث أنه ليس مطلوبًا لذاته في مشروع النهضة، بل هو مجرد أداة ووظيفة، وليس جوهريًّا، وأنه يتميز بالتغيير لا الثبات. فالتراث منعدم في انعدام أساليب استعماله، والواقع الذي يستعمل فيه، والقائم على ذلك الفرد والجماعة، سلطة الدولة وسلطة الجماهير.
والتراث مُدرَك في إطار فعل التغير الاجتماعي سلبًا أو إيجابًا، وحين يقوم كعائق أمام التغيير، يمكن أن تستخدمه السلطة كعنصر فاعل في تقدم التغيير، كوسيلة لضبط المجتمع أو لبعث الحركة بداخله ومن داخله.
لذا، فالتراث يعدُّ جزءًا من التغيير الاجتماعي، فهو طاقة مشحونة تتحرك -سلبًا وإيجابًا- تبعًا لاختيارات السلطة الاجتماعية والسياسية.
وهنا لا بد من توضيح أن التراث تراثان: تراث السلطة ممثلًا بـ(الثقافة الرسمية)، وتراث الشعب ممثلًا بـ(الثقافة السائدة)؛ لذا نستطيع أن ندرك في هذا السياق بأن التراث نتاج اجتماعي، لا يسبق وجود المجتمع، بل هو وليد الصراع الاجتماعي والسياسي، وليس سابقًا عليه.
غياب النظرة الإنسانية أدّى إلى تأكيد النرجسية التراثية، التي فرقت الوحدة الوطنية، وقسمت الأمة قسمَينِ متصارعين، فتوقفت عملية تطور ونماء التغيير الاجتماعي، هذا الانشقاق دَبَّ بين دعاة التراث وصار كلٌّ منهم يدّعي بأنه صاحب الحق على غيره
وبذلك فالتراث قضية وطنية تمس حياة المواطنين وتتدخل في شقائهم أو سعادتهم، وهي جزء من واقعنا، فنحن بمواطنتنا مسؤولون عن المجتمع والأرض والثروة والآثار القديمة والمأثورات.
لذا يتخذ التراث صفته كقضية وطنية؛ كونه ظاهرة حضارية ثقافية، والحضارة مكونة من الزمان والمكان وبفعلهما، والتراث هو عطاء زماني ومكاني يحمل في طياته كل شيء.
كذلك يعدُّ التراث قضية شخصية، نلتزم بها كمواطنين عبر ممارسة مواطنتنا، التي تختلف في أسلوب تطبيقها من أمة لأمة، فالتراث مخزون نفسي في الجماهير وهو مسؤولية فردية وجماعية، شخصية وقومية ووطنية، الواحد منها يحمي الآخر ويفعله، وتحدد فيها أخطاء التراث لتعاد صياغتها، فنقائصها لا تبرر ولا تتعرض للنقد فقط، بل يتم إكمالها والزيادة فيها.
ما الفائدة المرجوة من التراث؟
توجد العديد من الفوائد التي يمكن تحقيقها من التراث، أهمها:
البحث عن الجديد في فلسفة الفكر في التراث، لا نريد معارف، بل وظائف فكرية أعطت هذه المعرفة وأخرجتها كنواتج لها.
نحتاج فهم المحتوى المعرفي والمضمون الفكري المحرك ليساعدنا في استدامة استخدامه، ويحل أزمة تعامل مجتمعاتنا معه.
وهذا ينقلنا لتساؤل جديد:
ما هي أزمة تعامل مجتمعاتنا مع التراث؟
لفهم هذه الأزمة لا بد أن نفهم أولًا نوعية مجتمعاتنا؛ كي نتمكن من تحليل العلاقة بيننا كمجتمعات، من خلال فهم عيوب وميزات هذه المجتمعات، وكيفية تعاملها مع التراث.
تتضح نماذج هذه المجتمعات من خلال نموذجين سائدين، هما: نموذج المجتمع التراثي ونموذج المجتمع اللاتراثي:
نموذج المجتمع التراثي:
يتمثل بالمجتمع النامي، الذي يتعاطى مع التراث الشعبي بكيفية أفرزت اختلالات كثيرة، بسبب تعامله مع التراث كغاية في ذاته، وليس وسيلة لاكتمال التحرر والوصول إلى تنمية شاملة محكمة.
- التراث هو الذات والموضوع، الأنا والغير، لذا فهو مغلق على نفسه ولا يمكن النفاذ إليه.
الروح والمادة، وهو بهذا المعنى وحده:
لا يتشتت.
وكلٌّ، لا يقبل التجزئة والانقسام.
وكامل لا بداية له ولا نهاية؛ فهو حقائق مطلقة نقلت الزمان الماضي وتحتوي المكان الحاضر.
لذا تم التنكر للحاضر كليًّا، وتم التضحية بأصوله، وصار التراث مقدّسًا أكثر من الإنسان، وأصبح أصحاب التراث معبرين أكثر منهم، مقدرين أو عاملين أو مغيرين في الواقع.
إن غياب النظرة الإنسانية أدّى إلى تأكيد النرجسية التراثية، التي فرقت الوحدة الوطنية، وقسمت الأمة قسمَينِ متصارعين، فتوقفت عملية تطور ونماء التغيير الاجتماعي، هذا الانشقاق دَبَّ بين دعاة التراث وصار كلٌّ منهم يدّعي بأنه صاحب الحق على غيره.
وفي ظل هذا الوضع، كَثُرَ الاهتمام بشكليات ومظاهر الحياة التراثية وأطرها ضمن زمنها، ووُئِدت قوى التغيير الاجتماعي لديها، وأُعدِمَت أية وسيلة لمواجهة القديم القائم، وإلا اتهمت هذه المواجهات بالخروج عن تراث المجتمع.
لذا فإن نمط المجتمع التراثي يعاني من عيوب رئيسية:
التراث فيه غاية في ذاته، وليس وسيلة لتقدم الشعوب، ونهضة المجتمعات.
يكون التراث منفصلًا عن الواقع، وليس محدِّدًا له وموجهًا إياه؛ لأن التراث (فكر وواقع).
يؤخذ التراث كله أو يلغى كله، ولا يقبل التجزئة أو الانتقائية؛ لأنه حقيقة أبدية لا تتغير، ومسلمات لا تتطور ولا تخضع لتأويل أو تفسير أو وجهة نظر، وتشمل المكان والزمان، وتحتويهما فيه؛ فلا فرق بين الماضي والحاضر، ولا أدنى اهتمام بالمستقبل، ولا وجود لمراحل التاريخ أو نوعية المجتمعات أو خصوصية الشعوب، وبالتالي تم التنكر للحاضر.
والواقع بنظر هذه المجتمعات كله فاسد، لا يجوز تطويره، بل هدمه، وبدء البناء من جديد، فيأتي النمط التراثي كرد فعل له.
ضرورة الاهتمام بالتراث دراسة وبحثًا واندماجًا متبادلًا بين الذات الدارسة والموضوع المدروس، والتزامًا من قبل البحث والباحث في النقل والتوثيق فقط.
نموذج المجتمع اللاتراثي:
يَقطع الصلة بالقديم لبناء الجديد، على أساس من العلم والمعرفة، وبالجهد الإنساني الخالص بعد اكتشاف عورات التراث القديم، وعدم ثباته أمام العلم الجديد، وهذا كان درس عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر وحتى الآن. ومثلما ظهرت حركات بدائية، كتجمعات محلية، ظهرت أيضًا الحركات التحديثية العلمية العلمانية على النمط الأوروبي، كتجمعات فوقية مفروضة على مجتمعاتنا من الخارج.
هذا النموذج أوجد وفرض أوضاعًا في الفكر والعمل، تحصر التغيير في السطح لا في العمق، في الشكل لا في المضمون، كأن يصف الزخرفة دون أن يعطي دلالاتها الفكرية وسبب استخدامها بهذا الشكل بالذات. كأن التحديث هو ترك الأنا وتقليد الآخر، والقضاء على الهوية والوقوع في التغريب، كقول الشاعر: «لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية!».
حينما يتعرض المجتمع إلى تهديد خارجي تكون الحاجة ملِحّة إلى طرح حكايات وقصص وأحداث تستنهض الهمم وتقوي العزيمة وتشد الناس بعضهم إلى بعض؛ بغية الوقوف بوجه المعتدي
هذه النماذج تُحدث أكبر إشكاليات أزمتنا التراثية وهي حالة (انفصام الشخصية الوطنية)؛ لذا يظهر تساؤل مهم: كيف تحدث حالة الانفصام في الشخصية الوطنية؟
التخلف مرحلة تاريخية، لا يمكن عبورها بمجرد تغيير المظاهر الخارجية؛ فبهذا ستحدث تنمية بدون مفهوم التقدم، ويتم التحرير والتعمير دون مفهوم الأرض، وتتسع رقعة الخدمات دون مفهوم الإنسان.
نتيجة لذلك سيحدث انفصام في الشخصية الوطنية، وتتشكل طبقتان:
طبقة تاريخية محافظة أصيلة (فئة أصالة).
طبقة منقطعة تقدمية مستوردة (فئة تحديث).
لذا فارتباط الحياة في المجتمع بالتراث والحداثة في ظل هذا الانقسام والانفصام سيولد صراعًا حول أولوية البنية التحتية أو البنية الفوقية، ويقوم صراع بين فئتين: فئة نقلية الحركة، وفئة عقلية الحركة، ضمن توتر متطرف لكليهما، وهذا يوقف التغيير ولا يحدثه؛ فالمحافظون ساكنو الحركة، لا يتقدمون، بل يحجمون ويؤطرون ويعيقون، والمحدثون يتحركون ضمن نوازع مصالحهم الفردية، منكرين ورافضين لتركتهم التراثية، وهذا يؤدي إلى وقوف قوى التقدم، حتى لو كانت في موقع سلطة فستقف عاجزة عن البناء.
مجتمعاتنا النامية أصبحت بين نموذجين:
نمط تراثي يضحي بالتغيير الاجتماعي من أجل المحافظة على التراث.
نمط لا تراثي، يضحي من أجل إحداث التغيير الاجتماعي.
لذا نجد أن العلاقة بيننا، كمجتمعات تراثية أو لا تراثية، مع التراث الشعبي، تدخلنا في نوعية من العلاقات التي يحكمها نوع من التقديس، الذي قد يصل مكانة النص التشريعي، ليظهر كحالة من العصابية لدى البعض "مجتمع تراثي"، أو يتخذ مظهرًا معاكسًا لدى آخرين "مجتمع لا تراثي"، ليصل إلى علاقة إلغاء تامّ أو تحقير! هذان النوعان من العلاقة، وما يتراوح بينهما من تطرف متذبذب، هما ما ينبغي إعادة النظر فيه لتوضيح وإزالة الارتباك واللبس فيه؛ لذا نحتاج لإعادة قراءة هذا التراث بصورة عقلانية تضعه في حيِّزه التاريخي، بحيث لا نسقط عليه مشاكلنا، ونستخرج منه ما ليس فيه.
ما هو الحل لأزمة التراث عبر المواطنة؟
حل أزمة التراث يكون عبر اقتراح نماذج لخطط استراتيجية تحمل رؤية وأهدافًا مشتركة، تقوم بتفعيلها كلٌّ من مؤسسات الدولة، وتقرها في مناهجها وتوجهاتها، وتساندها وتتحد معها المؤسسات المدنية الثقافية والفنية بكل مستوياتها.
هذه النماذج تتحرك ضمن أربعة محاور زمنية متوازية ومتتالية في بعض المحاور، وهي:
التوعية.
رصد الزمن الماضي بمقياسه دون أن يؤثر في الزمن الحاضر.
الانتخاب الدقيق والممارسة عبر المواطنة في الزمن الحاضر.
التجديد والصناعة في الزمن الحاضر لخلق مستقبل جديد واعٍ ومُثرٍ، تحكمه المعايير الأخلاقية للإنسانية بكل تجلياتها، وتعالج قضاياه، وتنتقل كتركة أصيلة قابلة للاستدامة والتطور؛ كونها تحفظ الفكر والمصلحة الإنسانية.
وتقوم على خمس مراحل رئيسية:
أولا: مرحلة فهم التراث الشعبي بخصائصه وأنواعه، وفق قراءة ورؤية مختلفة تجعل المقروء معاصرًا لزمنه كي يصل بنا لنتيجة.
ثانياً: تعيين قضايا العصر الأساسية، وقبول تحدي وجودها عبر التمهيد لها ضمن استراتيجيات تشمل خطوات رئيسية:
التمهيد لمرحلة تأسيس عقائدي أخلاقي وفكري.
التمهيد لمرحلة تأسيس علمي من خلال تفعيل حركة ترجمة التراث الشعبي المنتخب للغات الأخرى، والسعي لإنتاج قراءات تحليلية وعلمية تعتمد إعمال العقل فيها، ونشر الوعي بها على أوسع نطاق.
ثالثاً: الانتخاب التراثي كمشروع حضاري وقومي.
يتم الانتخاب من التراث الشعبي عبر مشروع النموذج البنائي التجديدي الإحيائي؛ وهو نموذج بعيد عن النموذجين "التراثي" و"اللاتراثي"، فشروط هذا النموذج تنتقل بالإنسان وفكره وحياته عامة من وضعيات انتقال من الأدنى إلى الأعلى، بتحويلها إلى وضعيات انتقال من الأعلى إلى الأدنى، ومن الخلف إلى الأمام، فبدل أن يكون من الإنسان إلى الله يكون الانتقال من الله إلى الإنسان، ومن الإيمان والنظر والعقيدة إلى العمل والممارسة، ومن فناء النفس وخلودها إلى بقائها واستمرارها، ومن زوال الحياة الدنيا إلى بقاء العالم واستمراره، ومن "الفرقة الناجية" إلى وحدة الوطن وتماسكه والذود عنه، ومن الجبر والإكراه والقدر إلى خلق الأفعال والحرية والتحرر، ومن التطرف السلبي لممارسة "الإشراقية" و"النورانية" و"العقلانية"، إلى دمج الروحانية بالعقل البرهاني. هذه الطريقة في التعاطي مع التراث القديم ومع العصر الحالي، هي التي تضمن تجانس التراث مع الحداثة بعيدًا عن التغريب في النموذج اللاتراثي، وعن تقوقع وتعصب النموذج التراثي.
رابعاً: تفعيل المواطنة في مشروع استدامة التراث من خلال ما يوافق العصر وصناعة التراث المستقبلي.
هذه الممارسة لا بد أن تكون ضمن رؤية منهجية لنماذج تفعيلية تقوم بها مؤسسات مشتركة بين الدولة والمواطن إذا أريد لها الاستمرارية والنجاح، ولا بد لها من أن تنطلق من إشباع الاحتياجات الأساسية لهذا المواطن، سواء احتياجات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية؛ لأن تهميش هذه الركيزة الأساسية من مقومات المواطنة لصالح التراث الشعبي قد تتعرض لتآكل هذا الإحساس بالمواطنة وعدم الاكتراث له، والذي قد يتخذ صوره من خلال الانسحاب من الحياة الاجتماعية والمشاركة الفاعلة فيها، أو من خلال الانسحاب من القيام بالواجبات المنوط بها، وقد تصل إلى التمرد والخروج والاحتماء بجماعات وسيطة غير مرغوبة.
لذا فإن الحفاظ على هذه الإمكانات والفرص التي يتيحها التراث للمواطن عبر التعاون المشترك بين الدولة والمؤسسات المدنية، يعتمد على تحديد نمو هذا المواطن ونمو دولته، ولعل أهم مداخل هذا الإظهار عبر امتلاك الدولة لثقافتها وممارسة هذه الثقافة بوعي من خلال إشراك المواطنين وتنميتها، هذه المشاركة ستتيح لهم الحصول على الموارد، وبالتالي تشجعهم على القيام بواجباتهم والتزاماتهم الأساسية تجاه التراث الشعبي.
إن خلق هذا الوعي لدى هذا المواطن سيتوفر من إمكانيته للحصول على المعلومات من مصادرها المختلفة؛ بحيث تتكون لديه قاعدة معرفية تؤهِّله لتحمل المسؤولية والقدرة على المشاركة، بل وحتى المساءلة.
لذا ينبغي لهذا المواطن أن تُمنح له العدالة الاجتماعية والمساوة في توزيع الفرص الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، التي لن تتم إلا من خلال تنشئة اجتماعية وثقافية تقوم بها مختلف مؤسسات المجتمع بإشراف من الدولة؛ لتُسهِم في فهم هذا المواطن لأهداف وطنه وتراثه، وكيف سيتحمل دوره في المواطنة لممارسة مسؤولية استمرار وتطور هذا التراث الشعبي وثقافته بوعي واقتدار وتعايش دون أن يذوب في إطار الآخرين.
وتبدأ تعزيز المواطنة المسؤولة في عملية الحفاظ على الهوية التراثية من دمج هذه المفاهيم في المناهج التعليمية وتربية الأجيال الجديدة على أسس وموروثات الهُوية والحضارة، بحيث يلعب المجتمع إلى جانب المؤسسات المدنية، دورًا نشطًا في الحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي من خلال الأنشطة المختلفة التي تدعمها الدولة.
هذه الأنشطة تكون ضمن المسارات والنماذج الاستراتيجية الآنفة الذكر، التي تهدف إلى تطوير وتنسيق البرامج الوطنية، لتعزيز التماسك الاجتماعي والشعور بالانتماء إلى الهوية الوطنية.
وفي إطار المواطنة يعدُّ التراثُ الروحَ التي تمتلك الحياة في جسد المجتمع، والمعبِّر الحقيقي عن آماله وتطلعاته؛ فهو لسان حال الجماعة، ويعبّر عنها من خلال الفرد، فحينما يتعرض المجتمع إلى تهديد خارجي تكون الحاجة ملِحّة إلى طرح حكايات وقصص وأحداث تستنهض الهمم وتقوي العزيمة وتشد الناس بعضهم إلى بعض؛ بغية الوقوف بوجه المعتدي، حيث تنتشر هذه الخطابات بين الناس كانتشار النار في الهشيم، وتحقق فعلها الذي وجدت من أجله، وعلى مر التاريخ لحضارتنا، وجدنا حكايات كثيرة ركّزت، شكلًا ومضمونًا، على تعزيز روح المواطنة واستلهامها في نفوس الناس.
إن توضيح مفهوم المواطنة ودورها في حفظ واستدامة وصناعة التراث، تشكل واجبًا وطنيًّا وأخلاقيًّا على جميع المهتمين بالتراث المادي والمعنوي والفكري في أوطاننا؛ فالإعجاب والتغني بتراث الأجداد لا قيمة له إلا بمقدار إسهامه في حل قضايا العصر الأساسية وقبول تحدياته المعاصرة.
أضف تعليق