سلسلة فيلسوف معاصر- مقال ( هيدغر والكينونة- من- أجل- الموت ) - مؤسسة دار إبن حبتور للعلوم و الثقافة و التوثيق الخيرية

سلسلة فيلسوف معاصر- مقال ( هيدغر والكينونة- من- أجل- الموت )

 


سلسلة فيلسوف معاصر

الجزء الخامس والأخير : هيدغر والكينونة- من- أجل- الموت:

إن الـقلق من شأنه أن يكشف عن الـوجود الأصـيل، الـوجود كـما هـو، للكـينونة. وذلك بالكشف عن مجموع إمكانـات هذه الكـينونة. ومن بين أكبر الإمكانات نَجِدُ إمكان الموت كإمكان مطلق، كإمكان نهائي، يتخطّى كل إمكان ولا يتخطّاه أيُّ إمكان. فـالموت هو آخر الممكنات جميعاً، هو الإمكان الذي يجعل بقيَّة الممكنات كلها، أيَّاً كان نوعها، غير ممكنة. فهو كما عبَّر هيدغر: "عدم إمكان أي وجود بشري على الإطلاق".
إن الموت هو حقيقة كل حي. كل موجود لا بد له من أن يموت. فالموت يجرد الآنية من كل شيء وكأنها لم تكن تملك شيء. فالإنسان يوجد في العالم ثمَّ يختفي منه كأنه لم يكن. إن البداية دليل قاطع على وجود النهاية. إن مشروع الإنسان الأصيل، حسب هيدغر، هو أن يكون كي يموت. إنَّ الكـينونة لا تستطيع أن تتجاوز هذه الإمكانية النهائية، إمكانية الموت.
لـيس الموت في نظر هيدغر مجرد فكرة تعبر عن الـخاتمة أو الانـتهاء، بل هو إمـكانية معاشـة تعبر عن فـعل الـتناهـي أو الانـتهاء. وهذا هو السبب في أن هيدغر لا يرى في الـموت عـرضاً أو حـادثاً يأتي إلينا من الخارج، بل هو يرى فيه أعلى إمكانية من إمكانيات الموجود البشري.
إن تفكير الـذات في الـموت، أو استباقها له عن طريق التصور، لهو الكفيل بعزلها عن الآخرين، وردها إلى باطن وجودها الحقّ. ومعنى هذا أن فـكرة الـموت تصرف الـذات عن التفكير في هـموم الحياة ومشاغلها، فتضعها وجها لوجه بإزاء وجودها الفردي الخاص.
يربط هيدغر بين الموت والهم، الهم هو نفسه ظاهرة معقدة، وهو ينشأ من التوتر القائم بين اندفاع الإمكان في المستقبل ووقائعية الموقف الذي يلقى فيه بالموجود، فضلاً عن سقوطه في العالم. إنَّ الهم هو الطابع الأصلي للوجود، ونقصد بالموجود هنا الآنية، فلا بد من أن نجد في الـهم هذه الخصائص الرئيسية الثلاث. ولهذا فإن الهم هو الوجود الذاتي- مع الإمكان- بالفعل- في العالم. فقولنا: "مع الإمكان" يعبر عن الإضمار والتصميم، وقولنا "بالفعل" يعبّر عن الـواقعية، وقولنا "في العالم" يعبّر عن السقوط. ويمكن للموت أن يفهم في علاقة بهذه اللحظات الثلاث للهم.
أولاً- فيما يتعلق بالإمكان والمستقبل، فإن الموت بوصفه الإمكان الأعلى للوجود البشري، فهو الإمكان الذي تخضع له جميع الإمكانات الأخرى، فجميع إمكاناتنا تنتشر، إن صحّ التعبير، في مواجهة الموت. وهناك ضرب من التسلسل الهرمي للإمكانات ويشغل إمكان الـموت موضع السيادة.
ثانياً- إن الإمكان يتجه إلى المستقبل، إلى ما ليس قائماً بعد، في حين أن الوقائعية تهتم بما هو موجود "بالفعل". ويكون الموجود البشري منذ بداية الحياة ذاتها في موقف الفناء، فهو يشيخ باستمرار لحد الموت. والموت هو أعظم المعطيات كلها صلابة في الموجود البشري. فالموت سيظل جزءاً من الوضع البشري الوقائعي.
ثالثاً- يتضمن الهم لحظة ثالثة هي الـسقوط أو الاستغراق في العالم الوسائلي وفي التجمع اللاشخصي للهم، ويظهر ذلك في الموقف اليومي تجاه الـموت الذي هو موقف فرار واجتناب. يقول هيدغر: "إن الكينونة اليومية نحو الموت هي، من حيث هي منحطَّة، هروب مستمر أمامه".


ليست هناك تعليقات