عوالم الصدق - نحو فلسفة للمعرفة
كتاب: عوالم الصدق - نحو فلسفة للمعرفة
تاليف : إسرائيل شفلر
ترجمة: فاطمة اسماعيل
ويُعد كتاب شفلر «عوالم الصدق» نتاجًا لحصاد السنين التي عاشها، فهو من أواخر ما كتب. ففي هذا الكتاب تبرز اللحظة التاريخية التي تعبّر عن أصالة النص الفلسفي حين يجمع في طياته خبرة صاحب النص ممزوجة بخبرات الآخرين، وتبرز أصالته في عمق تحليله، وفي نزعته النقدية.
وموضوع هذا الكتاب فلسفة المعرفة. وقد ارتبطت المعرفة بوجود الإنسان منذ لحظة ميلاده ونموه وتطوره. فبدأ محاولاً التَّعرف على نفسه، والتعرف على موجودات العالم حوله. فحدث نوع من الاتصال والتواصل بينه وبين الموجودات. وهي محاولات ممزوجة بالعاطفة أحيانًا، وبالخيال أحيانًا أخرى، وبالمنفعة في كثير من الأحيان.
وموضوع المعرفة في ذاته قديم قِدَم الفلسفة نفسها، حيث يمثل مبحث المعرفة أحد مباحث الفكر الفلسفي، بل إن أهم مشكلة تناولتها الفلسفة منذ نشأتها، وتعددت فيها الآراء وتشعبت فيها المذاهب على مرّ تاريخ الفلسفة وعلى الأخص في عصرها الحديث في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وقد استمر الاهتمام بفلسفة المعرفة حتى يومنا هذا، وبصفة خاصة مع التطورات العلمية التي أثرت بدورها على الاتجاهات الفلسفية المعاصرة. وأصبح الاهتمام ينصب على دراسة كيفية نُّمو المعرفة وتطورها، باعتبارها ظاهرة طبيعية مثل أي ظاهرة طبيعية أخرى. والكشف عن العلاقات الرابطة بين عناصرها وبين العناصر الأخرى التي تكوِّن فلسفة المعرفة
يتكوَّن الكتاب من مقدمة وستة فصول. تندرج هذه الفصول في جزئين: الجزء الأول مقسم إلى ثلاثة فصول. الفصل الأول يتناول موضوع «التبرير»، والثاني يتناول موضوع «الصدق»، والثالث يتناول موضوع «العوالم». والفصول الثلاثة اللاحقة التي تمثل (الجزء الثاني) توضح بعض الموضوعات الرئيسة في هذا الكتاب وتتوسع فيها.
أما الفصل الأول، وعنوانه «التبرير»، فيتناول مسائل إبستمولوجية تهتم بكيفية اختيار الحقائق الصادقة. وفي التبرير يعالج شفلر الاعتقادات، وطرق بلوغ الصدق، وفكرة اليقين، سواء اليقين الرياضي أو اليقين في المنطق الكلاسيكي، أو لدى الاتجاه التجريبي، وذلك برفضه الدعوات العديدة التي تطالب باليقين بوصفه خاتمة سلاسل التبرير التي تزعم أنها توفر لمعتقداتنا طريقًا غير مُباشر للصدق.
وينتقد شيفلر العقليين وعلى رأسهم ديكارت، مفندًا اليقين الرياضي، وكذلك اليقين في المنطق الكلاسيكي المبني على قانون عدم التناقض.
ويرتبط التبرير عند شفلر بالاعتقادات ارتباطًا قويًا، حيث إن التبرير ما هو إلا تبرير للاعتقادات. لذا يرى شفلر أن فكرة التبرير الحقيقية عبارة عن إنجاز مُعقد لا يكون متاحًا قبل وجود المعتقدات. ومهما كان فهمنا للتبرير فلا يمكنه أن يتم دون تناول بعض المعتقدات المحددة بوصفها مسلماً بها، وسابقة على تبريرها ذاته.
ويتناول الفصل الثاني موضوع «الصدق» ويعرض الانتقال من الإبستمولوجيا إلى الإشارة، مرورًا بالاهتمام بكيفية اكتساب الحقائق وصولاً إلى ما تثبته هذه الحقائق الصادقة. ويتوقف شفلر عند فكرة الصدق المطلق، ويرى أنها فكرة ليست شائعة حاليًا حيث ساد اعتقاد خاطئ بأن العلم قد حل محلها.
وإذا كانت المعرفة عند شفلر تبدأ بنقد كافة معتقداتنا، وإخضاعها للتنقية، والإبقاء على المعتقدات الأكثر صلاحية والأكثر معقولية. فإنه يزعم بأن هذه الصلاحية ليست ثابتة بشكل نهائي، بل تتعرض للتغير والنمو. والنتيجة بناء على ذلك أنّه لا يوجد اعتقاد له مدخل مُباشر للصدق، بل إن مدخله للصدق غير مباشر. وبالتالي فالأمر يتطلب تبريرًا يعتمد على الدليل الداعم لهذا الصدق. ومن ثمَّ تظهر بوضوح العلاقة الرابطة بين الاعتقاد والصدق والتبرير.
ويستعرض شفلر طرق الصدق عند العقليين، وكذلك عند التجريبيين، مؤكدًا نزعة نقدية واضحة. وينقد الصورة المألوفة عن الصدق في تاريخ الفلسفة عند العقليين والتجريبيين، فينتقد الطابع التسلسلي في عملية بلوغ الصدق، إذ إن كلاً من الاتجاهين يبدأ من نقطة انطلاق محددة تمثل الأساس الراسخ في عملية المعرفة وبلوغ الصدق. فاعتمد العقليون على روابط أولية في العقل جعلوها محصنة من الشك، والتجريبيون أسسوا يقيناً مثل هذه الروابط ولكن تقوم على المُعطيات الحسية المُستمدة من التجربة. وكلا الاتجاهين يفترض مجموعة عناصر يتعاملون معها على أنَّها صادقة. وهذا ما يرفضه شفلر ويرى أنَّه تم نقضها تمامًا، سواء في الرياضيات أو في العلوم التجريبية. فلم تعد الرياضيات- موطن الفلسفة العقلانية- ملجأ للصدق الذي لا شك فيه، بل أصبحت تنمو وتزدهر على الشك والتأمل. والعلم التجريبي- إلهام الفكر التجريبي- أنتج الكثير من النظريات الموثوق بها والتي صدت النزعات الدجماطيقية الموروثة.
أما الفصل الثالث وهو بعنوان «عوالم» فيتناول الموضوعات الميتافيزيقية، ويعرض شفلر فيه المناقشات الفلسفية التي دارت بين أصحاب مذهب الوحدة وبين القائلين بمذهب التعدد. ويرفض اتجاه هاتين المدرستين في التفكير، ويتحدث عمَّا يسميه بالتَّعددية الواقعية، وهو المذهب الذي يشير إلى وجود العديد من العوالم الواقعية، وليس كما يدعي غير الواقعيين من أنه لا يوجد أي شيء، أو كما يدعي الفيزيائيون من أنه يوجد عالم واحد فقط.
ويعتقد شفلر أننا نعيش في عوالم عديدة، نتعرف عليها من خلال الطرق العلمية، وتخضع لعدد من مجموعات الصدق التي لا ترد إلى مجموعة واحدة. إن القول بوجود نظرية لكل شيء يُعدّ تصورًا وهميًا. إن العلم يمر بمرحلتين الأولى أن هدف العلم هو الاقتصاد. والأخرى مرحلة يسعى فيها العلم إلى اكتشاف مجالات جديدة لصقلها وتنميتها.
ويدعو شفلر إلى «الواقعية التعددية» وهي واقعية مضادة للواقعية واللا واقعية في آن معًا. واقعية مضادة للواقعية التي تقول بأن العالم واحد، وتعددية ترفض أن تكون العوالم هي تقريراتنا وأوصافنا عنها. أي يرفض أن يتم تشكيل العوالم عن طريق وضع النسخ التي تحمل الرؤى المتعددة عن العالم.
والواقع أن النزعة الوسطية المعتدلة التي يدعو إليها شفلر نجدها أيضًا عند بعض زملائه من الفلاسفة المعاصرين له أمثال: هيلاري بنتام، وكاثرين إلجين، وماري هيس، على اختلاف ما بينهم.
والجزء الثاني من الكتاب بعنوان «موضوعات براجماتية ذات صلة» وهو جزء يتمم صورة فلسفة المعرفة كما يراها شفلر. ويتصل الفصل الرابع بتوجهه البراجماتي وبمصدره الكلاسيكي عند «بيرس» مشددًا على نقده لديكارت، وعلى مذهبه المضاد للنزعة الأصولية، وعلى فهمه للعلم.
ويقدم الفصل الخامس محاولة لتطبيق رأي شفلر التفاعلي عن التبرير ليس فقط بالنسبة للعلم، ولكن أيضًا بالنسبة للأخلاق. وتُعد فكرة التبرير أحد مفاتيح الأخلاق المعيارية. في حين يذهب بعض المفكرين إلى أن القضايا الأخلاقية يمكن ردها فعلاً إلى قضايا علمية حقيقية. فيقول جون ديوي: إن العبارات الأخلاقية مساوية للادعاءات التجريبية.
أما الفصل السادس فيربط شفلر فيه الفهم بالعواطف، سواء في العلم، أو في الفلسفة، أو في الفن، ومن ثم يضرب مثلاً للتأكيد البراجماتي على ربط النظرية بالممارسة. ولم يعد العلم وحده هو مصدر المعرفة، بل إن المعرفة العلمية نمط من أنماط المعرفة يشترك في علاقة تفاعل مع الأنماط الأخرى، فلم يعد هناك فصل حاد وحاسم بين العلم والفلسفة والفن والأخلاق. بل إن هناك علاقات تداخل وتشابه، وتعاون وتأثير وتأثر، فالفلسفة ليست بأكثر من العلم يمكن لها أن توحي نتائجها ببساطة وليست بأقل من العلم حين تناضل من أجل الموضوعية المتعلقة بالتقييدات المنهجية المستقلة بذاتها والتي قد تتغير.
وتقدم المترجمة في مقدمتها للكتاب خلاصة الموقف الإبستمولوجي عند شفلر الذي يقوم على تفعيل الكثير من المبادئ البراجماتية، ومنها مبدأ اللا عصمة من الخطأ فلا يوجد في المعرفة ما هو محصن ضد الشك، أو بمنأى عن التغيير المستمر. لذا يرفض شفلر الاستناد إلى معتقدات أساسية تبعد عن تهديد التغير. فالمعرفة عنده تبدأ بعملية نقدية تقوم على التأمل المستمر في معتقداتنا الأساسية التي تزخر بها عقولنا. وليست هذه المعتقدات ثابتة وليست معصومة من الخطأ، ويؤدي التجديد المستمر إلى التغيير حتى في المعتقدات الأساسية التي نبدأ منها عملية المعرفة أو الفروض التي نبدأ بها العلم.
ولا يرى شفلر أي فجوة بين البراجماتية والمناهج التحليلية في الفلسفة، فجمع بينهما حتى أصبح رائدًا من رواد الاتجاه التحليلي في عصرنا. وذلك لإدراكه أن البراجماتية بدون الحجة والتحليل تصبح مجرد موقف وليست فلسفة حقًا. لذا يرى شفلر أن كبار البراجماتيين الأمريكيين لم يتخلصوا من التحليل الفلسفي، بل قاموا بتطبيقه بمعنى مبتكر على نطاق واسع على المشكلات المعاصرة.
وتعقب المترجمة على الكتاب الذي بين أيدينا بأن ما يعني باحث الفلسفة في مجتمعاتنا العربية، ليس طائفة المعلومات التي يأتي بها الفلاسفة أو المفكرون في مؤلفاتهم، أو كم النتائج التي يصلون إليها باعتبارها ثمار فكرهم الخاص؛ فليس المطلوب أن نقف عند مجرد حشد من المعلومات المجردة، دون أن نعلم أو نتعلم الطريقة التي وصلوا بها إلى هذه المعلومات، أو كيف وصلوا إلى نتائجهم، أو كيف يحلون مشاكلهم التي تواجههم. و«منهجية التفكير» هي ما ينبغي أن نهتم بها على الدوام فلا يعنينا المذهب بقدر ما يعنينا المنهج. فالمنهج هو المفتاح الذي يفتح لنا الغرف المغلقة، ويضيء لنا الطرق المظلمة، ويقود التفكير نحو الهدف المنشود.
وتستخلص المترجمة مجموعة من المبادئ المنهجية التي تفيد باحث الفلسفة أو تفيد القارئ العربي عمومًا من خلال الممارسات المنهجية عند شفلر. ومن هذه المبادئ المنهجية:
يثبت لنا شفلر أن المعرفة أو العلم أو أي مجال معرفي لا يبدأ من الجهل المطلق، ولا ينتهي إلى الكمال المطلق، بل يبدأ من المعتقدات الأساسية أو الآراء السابقة أو السائدة، فتنمو المعرفة وتتطور من خلال التواصل والاتصال بين القديم والجديد.
يقدم شفلر نموذجًا عمليًا لمعنى التحليل بوصفه نقدًا للآراء السابقة والسائدة، نقدًا يقوم على الاستبعاد والانتقاء، الهدم والبناء. ويستبعد الجوانب السلبية ويبقي الجوانب الإيجابية، ثم يضعها في مركب جديد تحكمه ضوابط صادقة، تقوم على التفاعل المتبادل فيما بينها.
إن المبدأ الذي نحن أحوج ما نكون إليه في وقتنا الحاضر هو ربط النظر بالعمل، أو ربط النظرية بالممارسة. أي أن أفكارنا تصبح صحيحة بقدر ما تؤديه بنجاح في حياتنا العملية، وأن اختبار صدق أفكارنا أو صلاحيتها يعود إلى ما تحققه من نجاح في تحقيق أهدافنا.
إن المعرفة لم تعد حلية تضاف إلى الشيء لتزيينه، ولم يعد المقصود منها استنارة العقل حتى يتحول صاحبها من جاهل إلى عارف، إنما هي الضرب الذي لا يغير الإنسان فحسب، بل يغير العالم من حوله.
لتحميل الكتاب من ( مكتبة دار بن حبتور ) من هنـــــا
أضف تعليق