صناعة الأصنام دكتور/ حسين علي (مقال)
صناعة الأصنام
دكتور/ حسين علي
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس
ما زالت صناعة الأصنام وتقديسها، صناعة رائجة حتى يومنا هذا في منطقتنا العربية والعالم الإسلامي. والأصنام التي أعنيها ليست بالضرورة مصنوعة من الأحجار أو غيرها من المواد الصلبة، بل هى أوثان وأوهام صنعتها تصوراتنا الذهنية عن أشخاص رفعناهم مكانًة تقترب كثيرًا من حد التقديس، وهم في حقيقة أمرهم لا يستأهلون تلك المكانة. فنحن نضفي، في بعض الحالات، صفات على أشخاص لا يستحقونها؛ وهذا القول يصدق على مستوى حياتنا الشخصية، كما يصدق على حياتنا العامة.
إذا تأملنا- على مستوى حياتنا الشخصية- من مر من الأشخاص بحياتنا، سنجد بعضهم قد منحناه من التقدير والتبجيل والتوقير ما كشفت الأيام عن أنه غير جدير به. صديق أو أستاذ أو زوجة أو زوج منحناه كل الثقة، وظننا أنه أهل لهذه الثقة، وتبين لنا مع الوقت أنه مخادع وخائن وضئيل الشأن، وأننا منحناه ما لا يستحق. إن تصوراتنا الخاطئة عن الأشياء والأشخاص مسؤولة مسئولية كبيرة عن كثير من الخلط والاضطراب الذي يجري في حياتنا أحيانًا.
عالجت الفلسفة هذه الظاهرة الإنسانية المرتبطة بإدراكنا للعالَم. ففي مبحث فلسفي بالغ الأهمية، وهو «مبحث المعرفة» Epistemology، تطرح الفلسفة سؤالاً يتعلق بالإدراك الإنساني: هل العقل البشري يدرك الأشياء والأشخاص على حقيقتها؟ هل العقل يدرك الواقع كما هو موجود في الحقيقة، دون تبديل أو تغيير؟ هل العقل الإنساني شبيه بكاميرا الفيديو أو كاميرا الموبايل يصور الواقع بدقة؟ انقسم الفلاسفة في الإجابة عن هذه التساؤلات إلى اتجاهات ومذاهب: النزعة «المثالية» Idealism التي يقول أصحابها «إن الأشياء الواقعية ليست شيئًا آخر غير أفكارنا نحن، وأنه ليس هناك حقيقة إلا ذواتنا المفكرة، أما وجود الأشياء فيعتمد على إدراكنا نحن لهذه الأشياء». والواقع أن هناك فوارق واختلافات واسعة بين الفلاسفة أصحاب الاتجاه المثالي، ورغم هذه الاختلافات فإنهم يجمعون على القول بأن وجود الأشياء الخارجية متوقف على وجود القوى التي تدركها، فإذا انعدمت هذه القوى استحال وجود العالَم الخارجي.
ينكر الفلاسفة أصحاب المذهب المثالي أن يكون العقل شبيهًابالكاميرا، ويقولون إن الذات المدرِكة تصبغ الواقع بصبغتها الخاصة، وإننا حين ننظر إلى الأشياء والأشخاص الموجودة في الواقع، لا ندركها كما هى عليه في الحقيقة والواقع، وإنما كما تتراءى لنا من خلال منظورنا العقلي والوجداني، ومن ثمَّ يُضفي الإنسان المدرِك من عنده صفات وسمات على الأشياء والأشخاص الماثلة أمامه، قد لا تكون فيها. فحين تلتقي بشخص ما، وتتوسم فيه خيرًا، وتقترب منه، مقيمًا لعلاقة صداقة معه، وتأخذ هذه العلاقة في النمو والازدهار يومًا بعد يوم. أنت في هذه الحالة، أو خلال هذه العلاقة، لا تتعامل مع الشخص ذاته، وإنما تتعامل مع أفكارك أنت وتصوراتك عنه. تنسج من تصوراتك العقلية صورة لذلك الشخص، إن الصورة التي رسمتها له، لا يمكنها أبدًا أن تتطابق مع حقيقة ذلك الشخص الواقعية، إنها قد تقترب من حقيقته أو تبعد، لكنها لا تتطابق. إن مدى بعد المسافة بين الصورة والواقع هو الذي يحدد ما إذا كنت على صواب أو خطأ في رؤيتك له. إذا كانت المسافة كبيرة بين الصورة الذهنية للشخص الذي تتعامل معه وحقيقته الواقعية، فأنت تعيش وهمًا، أما إذا صغرت المسافة بين الصورة الذهنية والواقع، فإنك تكون على صواب إلى حد كبير. كثيرًا ما يتجمل الإنسان حتى لا يثير نفور الآخرين منه، فيلجأ إلى اصطناع أساليب في معاملة الناس تزين صورته في أذهانهم. غير أن الأيام والمواقف تكشف كم كانت الصورة التي رسمها لنفسه زائفة، يتكشف لنا ذلك حين تسترجع ذاكرتنا مواقف سابقة لنا، كنا فيها مخلصين لمن لا يستأهل إخلاصنا، أو متحمسين لمن هو ضئيل الشأن، أو مؤمنين بمن هو مخادع وأفَّاق.
إن أشهر الأمثلة على تقديس ما لا ينبغي تقديسه في تاريخ الفكر الإنساني، سيطرة آراء «أرسطو» ونظرياته على تاريخ الفكر الإنساني طوال ما يقرب من ألفي عام. إذ ظل الفيلسوف اليوناني الكبير «أرسطو» يمثل المصدر الأساسي للمعرفة، في شتى جوانبها، طوال العصور الوسطى الأوربية والإسلامية، إذ كان الكثير من نظرياته يؤخذ بلا مناقشة، بوصفها مسلمات لا ينبغي أن يتطرق إليها الشك. واللافت للنظر في ظاهرة الخضوع لسلطة مفكر مثل «أرسطو»، إن هذا الخضوع كان يتخذ شكل التمجيد، بل التقديس، لشخصية هذا الفيلسوف، حتى أنه عندما جاء «جاليليو» بآراء مناهضة لأفكار «أرسطو» ونظرياته، كان من الطبيعي أن تثير هذه الآراء عاصفة من المعارضة شنها أولئك العلماء الذين اعتادوا تعظيم سلطة «أرسطو». فحين اتجه «جاليليو» بمنظاره المقرّب (التليسكوب) إلى كوكب «المشترى» Jupiter ورأى توابعه (الأقمار الأربعة الأكثر لمعانًا) وأطلق عليها اسم «الكواكب المدتشية» Medizeic Planets. وطلب إلى زملائه أن ينظروا خلال المنظار إلى الأقمار التي تدور حول «المشترى» رفضوا النظر، وبنوا رفضهم على أساس أنهم بحثوا في كتب «أرسطو» فلم يجدوا فيها ذكرًا لمثل هذه التوابع المزعومة للمشترى، وقالوا إن من ظن أنه رأى توابع للمشترى، كان واهمًا مخدوعًا.
قد يبدو لنا موقف أنصار «أرسطو» وتلاميذه مثيرًا للدهشة، لكننا لو تأملنا واقع حياتنا سندرك على الفور أن عددًا كبيرًا منا يقع فيما وقع فيه أتباع «أرسطو» وتلاميذه وربما أسوأ. انظر إلى شدة الاعتراض والرفض لكل من يوجه نقدًا إلى المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي مثلاً، أو غيره من الرموز الدينية أو السياسية الأحياء منهم والأموات؛ ألا يدل هذا الاعتراض والرفض على أننا نستهجن موقف أتباع أرسطو وتلاميذه وتأييدهم الأعمى له، ونغفل في الوقت ذاته عما يعتري موقفنا نحن اليوم من دعم وتأييد يصل إلى حد التسليم والتقديس لمواقف وآراء شخصيات دينية وسياسية ارتكبت أخطاء يندى لها الجبين!!
ومن هنا يمكننا القول إن العصور التي تسودها سلطة شخص سواء أكان ملكًا أو رئيسًا أو مفكرًا أو رجل دين مسيطرًة على كافة مناحي الحياة السياسية والعلمية والثقافية والدينية، هى عصور تخلف وانحدار تخلو من كل إبداع، ومن هنا أيضًا نجد أن عصور النهضة والتقدم كانت تجد لزامًا عليها أن تحارب السلطة العقلية السائدة، ممهدًة الأرض بذلك للابتكار والتجديد.
أضف تعليق