الحرُّ في صنعاء، والبردُ في عدنِ! - مؤسسة دار إبن حبتور للعلوم و الثقافة و التوثيق الخيرية

الحرُّ في صنعاء، والبردُ في عدنِ!

 

الحرُّ في صنعاء، والبردُ في عدنِ!

للمحامية أوسان سلطان ناجي 03-05-2021م


بعيداً عن السياسة وتأويلاتها، أنا واحدةٌ من منكوبي هذا الزمان (الأسود وليس الأغبر فقط) ممن وجدوا أنفسهم (عالقين في عدن) بين رُحى هذه الحرب الظالمة وتبعاتها، وكذلك عالقين بالضرورة بين (مطرقة) كهرباء عدن و(سِندانُ) حرّها القائض!

 

الحرُّ أكتسح كل الأبواب والحواجز، و يشتدُّ يوماً عن يوم. وعدن خلال فترة الصيف والحرُّ القائضُ لا تُطاق ولا تصلُح للعيش الأدمي! ومالم تتوفُّر خدمة التيار الكهربائي لمنازل المواطنين ليتمكنوا، على الأقل، من تشغيل المروحة والمكيف والثلاجة ومضخة الماء، فإن حياتهم تنقلب إلى مُعاناة وجهاد مستمر مع النفس، ومع الموت والمرض، ومع الفقر والجوع والجهل، ومع المجتمع، ومع السلطة. جهاد (عَدَمي) ينتهي دوماً بهزيمة نكراء للمجاهد المنكوب الذي سرعان مايخرُّ صريعاً إثر (الضربات القاضية المتوالية)!

 


إلى ذلك، فالكهرباء وجوداً وعدماً، تحسناً وتدهوراً، ترتبط بتوفير المياه، وبتصريف المجاري وضمان عدم خلطها بمياه الشرب - كما أصبح يحدث بين حين وآخر في عدن- وبتشغيل المستشفيات والمرافق الصحية والحيوية الأخرى في المدينة. 


 

ومن الواضح الجلي أن لا معالجات ولا إستعدادات جادة لتحسين أداء خدمة كهرباء (طفي لصي) لهذه السنة السادسة، وستشبهُ أخواتها الخمس السابقات، ولاسيما أن (شماعات تعليق الأخطاء منصوبة سلفاً)، والمسئولية ستغيب بسهولة في زخم المكايدات والمزايدات! وسيكون أقصى ماقد يتصدّق به الأخوة (اللامسئولين) هو (جرعات إنعاشية) لن تتجاوز عدة أيام من كل شهر وتعود المشكلة/ المأساة كما كانت وأشد! 

 


وفي ظل هذا (الإكتساح و الصهر والطرق) فإن البقاء والمُعافرة بعدن يعد (ضربٌ من الموتِ)، حرفياً، وخصوصاً للمرضى وكبار السن! ويصبح (لا مفر من سفر) لمن أستطاع إليه سبيلا. ومن يعجز عن ذلك كان الله في عونه وسيبقى في ذمة ومسئولية من يتحكم في شئون عدن وأهلها! 


 

لقد بدأ موسم السفر، موسم الهجرة إلى الشمال (إستعارة مجازية لعنوان رواية الطيب الصالح)، وإلى كل الإتجاهات، إلى الداخل و الخارج، هروباً من (الموت حرّاً وإختناقاً) وطلباً للراحة والبرد. 


 

وقبل الحرب، جرت عادة الكثير من أهل عدن مغادرة مدينتهم خلال شهر الصيف، فيسافر البعض إلى الخارج، بينما يتجه الأغلب إلى الداخل اليمني، إلى صنعاء وبقية المناطق الشمالية الأخرى الباردة بغرض الإجازة والسياحة الداخلية، الأقل كُلفة من الخارجية، علماً بأنه حينها لم تكن مشاكل الكهرباء والماء والمجاري بهذا المستوى المتدني، وكان السفر في إجازة الصيف يُعدُّ نوع من الترف وليس بفعلِ الضرورة الملحة كما هو الأن (مسألة حياة أو موت)!

 


 إلى صنعاء شدّينا الرحال هروباً من حرِّ عدن (وإذلال كهربتها). سافرنا بالسيارة براً، الوسيلة الوحيدة للوصول إلى صنعاء بعد غلق مطارها. مشقة سفر تذكرنا بقصص (المُستكشفين الأوائل) ودورانهم حول رأس الرجاء الصالح قبل شق قناة السويس! 


رحلة عذاب تُنهك الطفل والشاب، ولايقوى عليها مريض أو كبير سن. يضطر المسافر فيها لقطع مسافات طويلة على طرقات غير مألوفة ودروب وعرة وخطيرة. طوال الطريق ووالدتي المسكينة، التي تعاني من السُكّر والضغط والقلب والمفاصل، (تُسبّحُ وتدعو ألله أن ينتقم ويخسف) بكل من كان سبباً في مغادرتها لمدينتها وبيتها وغرفتها في هذا الوقت وبهذه الطريقة، وبكل من أوصلنا وبلادنا إلى هذا الوضع المُزري المهين!

 


في الظروف العادية، يتطلب الوصول لصنعاء حوالي 40 دقيقة بالطيران أو ست ساعات بالبر. الآن نحتاج من 12 – 18 ساعة وقد تمتد إلى يوم أو يومين بحسب الظروف الطارئة بسبب قطع السيول للطرقات، أو بسبب النقاط الأمنية، أو بسبب تجزئة الرحلة رفقاً ومراعاة بالمسافر المريض أو كبير السن، كما فعلنا نحن!   


 

تبدأ النسائم الباردة بمجرد الدخول للمناطق الشمالية، ويبدأ الإستمتاع التدريجي (بالمكيف الطبيعي) الدائم والمجاني ودون حاجة لإذلال كهرباء عدن!

 


وبدون مبالغة، تبدأ مرحلة الترحيب والتعامل الطيب، وكأن لعدن مفعول السحر على كل من كنا نصادفهم أثناء الطريق: إنتم من عدن..عائلة..أي خدمات..أتفضلوا أهلا وسهلا على العين والرأس! 

 


وأما عند الوصول لصنعاء وحط الرحال فيها، فتبدأ مرحلة أخرى من الشعور بالإستقرار النسبي رغم (النزوح الإضطراري)، يشعر النازح بأنه غادر (بيته الجنوبي) إلى (بيته الشمالي)، وحلَّ أهلا وسهلا بين أخوته وأهله وناسه اللذين عبارة (أرحب على الحاصل) لاتفارق شفاههم وأفعالهم. 

 


الحر في صنعاء والبرد في عدن، أو رحلة الشتاء والصيف اليمنية، (صيغة تكاملية) بسيطه واضحة تجسد عُمق وأزلية العلاقة بين المدينتين، صنعاء وعدن، بين الشمال والجنوب، فمن ضاقت به عدن عليه بصنعاء والعكس! 


مقاربة قد لايفهمها أو يستوعبها أو يستمتع بها إلا من يحمل في جنباته حب الوطن الأكبر...حب اليمن! 


ليست هناك تعليقات