الطفلة بُثينة الريمي ... والضمير الغائب للإنسانية جمعاء| ا.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور |2017 - مؤسسة دار إبن حبتور للعلوم و الثقافة و التوثيق الخيرية

الطفلة بُثينة الريمي ... والضمير الغائب للإنسانية جمعاء| ا.د. عبدالعزيز صالح بن حبتور |2017

 

 

 

زُرتُ الطفلة بُثينة في صبيحة أول ايام عيد الأضحى المبارك أنا وزملائي وزير المياه والبيئة المهندس/ نبيل الوزير، ووزير الصحة والسكان الدكتور/ محمد سالم بن حفيظ، في يوم الجمعية الحزينة يوم الفاتح من أغسطس 2017م، في مستشفى المتوكل بالعاصمة صنعاء، بُثينة هي الطفلة الوحيدة الناجية من اسرتها بعد أن دكَّت طائرات مُعادية بحمم صواريخها مسكَن اسرتها وآخرين في حي فج عطان بصنعاء، تم استهداف الحي السكني بعدد من الصواريخ من طائرات سعودية — إماراتية مُغيرة فجر يوم الـ 30 أغسطس 2017م، ونتج عن هذا العُدوان المتوحش جريمة إبادة ثلاث أسر عن بِكرة أبيها بعدد 18 شهيدةٍ وشهيد جُلُهُم أطفالاً ونسـاء، كانوا يبيتون ليلتهم الأخيرة في شققهم المستأجرة الآمنة، لأن معظم هؤلاء الشـهداء هم نازحون من محافظتي تعز و إب.

حادثة العُدوان هذه ليست الوحيدة في غضون أسبوع تقريباً، فقد سـبقها تدمير فندقٍ صغير (لوكندة) في مديرية أرحب بمحافظة صنعاء، ففي تاريخ 23 أغسطس 2017م، حيث دمَّر طيران العُدوان الفندق واستـشـهد 48 شهـيداً و عدداً آخـر من الجرحى، جميعهم عُمَّال بسطاء يعملون بالأجر اليومي في (قطف القـات)، و تلتها جريمة فـج عطان بالعاصمة صنعاء بتاريخ 25 أغسطس 2017م وذهـب ضحيتها 12 شهيد بمن فيهم أُسرة الجريحة بُثينة (عين الانسانية) وتلتها جريمة ثالثة في ذات الأسبوع وهو قصف شاحنة مُحمَّلة بالبضائع المُتجهة صوب صنعاء وضربت بجانبها سيارة أجرة صغيرة تقل رُكَّاب بُسطاء يودُون أن يقضوا اجازة عيدهم عند أُسرِهم في مدينة الحديدة وأسفرت جريمتهم عن استشهاد 18 شـهيد وكان مسـرح الجريمة هي قرية المسـاجد على مشارف مدخل صنعاء الغربي، كل هذه الثلاث الجرائم حدثت في غضون أسبوع ويزيد، وتَحدُث الجريمة في الأيام الحُرُم الذي حرَّم الله فيها القتال إلاّ لمقاومة المعتدي، كما حرَّم الله فيها الصيد في البراري، وبالمناسبة قد درج العرب في زمن الجاهلية منع قتال بعضهم البعض لأسباب تتعلق بطقوس زيارة الكعبة ومواسم التجارة والبيع والشراء في محيط مكة والكعبة المشرفة، وفي بعض الأسانيد التاريخية يرجع تحريم ذلك القتال من عهد النبي ابراهيم عليه السلام وهناك شروحات ضافية تؤشر إلى حُرمة القتال والصيد والاعتداء في الأشهر الحُرُم، جموع المسلمين وفي مقدمتهم علمائها من شرق الكُرة الارضيّة إلى غربها يتساءلون بحسرة و ألم:

أين حكام آل سعود الذين يتقاطرون امام كاميرات التلفزة وهم يؤدون الشعائر في الأماكن المقدسة ومعها الفروض بخشوع تمثيليٍ عظيمٍ من التعاليم الاسلامية الواضحة في هذا الأمر، و هل يُتابعون قتل الأبرياء جرَّاء غارات طائراتهم على المُدن اليمنية؟!.

أين العلماء والدُعاة الإسلامويون الذين أصمُّوا العالم كله بالآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة و الدروس والتعاليم الإسلامية؟!.

أين هم من ما يحدث من تناقض صارخ من أفعال أسيادهم (من أمراء وملوك ومشائخ)، تلك الأفعال المتناقضة كُلياً مع التعاليم الاسلامية، تجاه عدوانهم على الشعب اليمني، أم أنَّهم (فقهاء ودعاة بلاط الحاكم الملكي والاميري) فحسب، ولم يعد يهُمهُم من احاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وآيات الله البيِّنات من تعاليم القرآن الكريم ومن الدين الإسلامي كله؟!!!.

 

بُثينة هي الطفلة الناجية الوحيدة مِنْ أسرتها التي استشهدت جميعها في هذا العُدوان الغادر وعمرها لا يتجاوز الـ 5 أعوام ، وتحوَّلت بعد حدوث الجريمة إلى طفلة مشهورة جداً في العديد من المواقع الاعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي في اليمن ومحيطنا العربي/الاسلامي، ولأَنَّها أُصيبت في الرأس وتورم جفون عينيها، تعذَّر عليها أن تفتح عينيها، وعندما طُلب منها أن تتحدث مع الأطباء المشرفين على علاجها وأن تفتح عينيها للعلاج، لم تستطع فتح عينيها إلاّ بواسطة أصابع يُمناها لفتح عينها اليُمنى فحسب في حركة طفوليةٍ بريئة، ولذلك سُميت بـ (عين الإنسانية)، ولكي تقول للعالم سأحاول فتح العين اليُمنى برغم الوجع الناتج عن الكدمات التي احاطت بالوجه جرَّاء سقوطها تحت أنقاض منزل أُسرتها، تقول الطفلة بُثينة: إنني أودُّ أن أرى ضمير الأمة العربية والاسلامية، هل لازال موجوداً في حنايا صدور الأُمة أم أنَّه غاب وتوارى كي لا يَرى كُلَّ تلك الأفعال الدنيئة، والإجرام المسكوت عنه عربياً ودولياً؟!!!، كون الضحية ينتمى لشعبٍ كريم قال عنه الحبيب المُصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (إذ أخرج النسائي في سننه "كتاب التفسير" وإبن حبان في موارد الظمآن عن إبن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم أهل اليمن على رسول الله عليه الصلاة و السلام في المدينة قال رافعاً صوته: "الله أكبر الله أكبر جاء نصر الله وجاء فتح الله وجاء أهل اليمن فقال بعض الصحابة: وما أهل اليمن؟!، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: قومٌ نقية قلوبهم و لينة طباعهم ... الإيمان يمان والحكمة يمانية هم مني وأنا منهم" وهو شرفٌ والله عظيم. 

وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: "الإيمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان"، وهو حديث متواتر كما قال المناوي في فيض القدير. 

بل شهد لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم خير أهل الأرض فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده وغيره عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بطريق مكة فرفع رأسه إلى السماء فقال: "أتاكم أهل اليمن كقطع السحاب هم خير أهل الأرض" فقال رجل كان عنده من الأنصار: إلاّ نحن يا رسول الله (كررها) فقال المصطفى عليه السلام كلمة خفيفة ضعيفة: "إلاّ أنتم".

بعد هذه الشهادات القطعيَّة لليمانيون من خير خلق الله وأشرفهم على الإطلاق، لم يعد امام ملوك وأمراء بني سعود ومشائخ بني نهيان وغيرهم من المعتدين الأَعْرَاب على الشعب اليمني إلاّ السجود والركوع لكل هذا الإطراء النبوي الشريف، والكف عن إيذاء شعبنا والتوقٌف عن عدوانهم وحينها رُبَما يغفر الله والشعب اليمني عن جرائمهم القذرة.

 

نعود إلى بُثينة وأسرتها، ليست هي الضحية الأولى ولن تكون الاخيرة طالما وقد تم اسكات الضمير الجمعي للإنسانية من خلال شراء صمت العديد من المنظمات الانسانية، شراء صمت قادة الدول (الأَعرابية) وقادة دول العالم (الحُـر)، هؤلاء القادة الذين لا يعرفون إلاّ أمرً واحدً هو في مصالحهم المادية فحسب، وتبقى "الإنسانية" شِعار لا يردده سوى المظلومون والفقراء والتائهون على ارصفة البلدان التي أنتجت كل هذه المفاهيم والنظريات الفلسفية السفسطائية بدءاً من نُخب الفلسفة الأثينية كسقراط وأفلاطون وابيقراط وفيثاغورث وحتى مُنظري مرحلة الرأسمالية المتوحشة امثال فرانسيس فوكوياما، الذي بشّـر بنهاية التاريخ والبقاء في مرابض الرأسمالية، والفيلسوف هنري برجسون صاحب مؤلف الطاقة الروحية.

 

إذاً "بُثينة الطفلة الأيقونة" هي رمزية إنسانية عظيمة لشعبٍ عظيم تجرع ويتجرع مرارات العُدوان منذ اكثر من عامين ونصف، والرأي العام العربي، والإسلامي والأجنبي يحاول أن يِغمض ضميره أو يبقه في حالة تخدير دائم المدى كي لا يشعر بوخز الضمير وعذابات الصمت وكي لا يشعر بألم سهام نظرات اطفاله وهم يصوبونها تجاههم، و يوجهون أسئلتهم الحارقة ...

أينكم من عدوان صلف على شعب اليمن الذي كان ذات يومٍ مدد العرب والمسلمين جميعاً؟.

أين أنتم من عدوان 17 دولة معتدية هي الأغنى على الإطلاق في عالمنا الاسلامي ومحمية ايضاً من اكبر دول العالم مالاً وتسليحاً واجراماً؟.

أين الاخلاقيات الدينية والإنسانية التي كتبتموها ذات يوم في مواثيقكم المكتوبة و التي شاهد العالم كله لقطات تذكارية (لزعماء) تلك الدول وهي تبتسم امام عدسات الكاميرات؟.

أين، وأين، وأين؟!! ...

 

حينما فتحت الطفلة بُثينة عينها اليمني بتلقائية الطفولة البريئة قد رفعت الستار عن جميع أدعياء الإسلام والإنسانية، وعرَّت قادة كل البلدان الذين يظهرون ليل نهار وفي كل مناسبة هنا وهناك بأنهم مدافعين عن القيم الحرة والروح الانسانية، وتجلَّت صورهم المنافقة أمام شعوبهم وشعوب العالم قاطبة، بأنَّ الحديث شيء وقبح فعلهم شيءٌ آخر!!!.

 

في ذات الصباحية زرت مستشفى الثورة في قلب صنعاء واستقبلنا البروفيسور عبداللطيف أبو طالب - رئيس هيئة مستشفى الثورة، وتجولنا والوزيرين معاً في اجنحة وطوابق المستشفى وكانت وجهتنا هي زيارة جرحى الجيش اليمني واللجان الشعبية وابناء القبائل المتطوعين، هؤلاء الأبطال الذين تفاوتت إصاباتهم ومواقع جبهاتهم والوحدات العسكرية التي ينتسبون إليها، لكن والمشهد يجيـش بمشاعر الفخر والاعتزاز والعظمة يمكن لي أن ألخص المشهد في الآتي:

 

هؤلاء الجرحى من الشباب هم من كل محافظات الجمهورية ومن مختلف طبقات المجتمع وفئاته ويتحدثون بلغة واحدة بأنهم ضحوا من اجل اليمن الكبير، وإن تحدثوا بلهجات مناطق اليمن كلها تقريباً.

 

جاء هؤلاء الأبطال الجرحى من كل الجبهات القتالية المعطرة بالكرامة والشرف، حضروا من جبهات ما وراء الحدود (جيزان ونجران وعسير)، كما وفدوا من صحراء ميدي، والمخاء ومعسكر خالد وجبال كهبوب والصلو في تعز والبيضاء ورداع والضالع وبيحان بشبوه ومأرب والجوف والبقع في صعده ...... الخ.

 

يحدثونك على أن بقائهم بالمشفى ما هو إلاّ استراحة محارب للعلاج والاستشفاء فحسب وسيعودون إلى الجبهات ومعنوياتهم عاليةٍ جداً، ويحاولون أن يرفعوا معنوياتنا نحن، هكذا هو المشهد بكل قوته وجبروته وصلابة هؤلاء المجاهدين الأحرار مع وضوح في الأهداف الوطنية العظيمة التي يدافعون عنها.

 

هؤلاء المجاهدون الأبطال هم رجال الرجال الذين دافعوا ويدافعون عن الوطن وكرامته وعزته وشموخه، لا يطلبون إلاّ رضى الله واحترام الشعب اليمني العظيم ويتناغمون مع توجيهات قياداتهم السياسية الصامدون الثابتون إلى جانب شعبهم في أرض اليمن المبارك. 

الخُلاصة:

إن التفسير المنطقي لحركة بُثينة الطفلة التي حاولت جاهدة أن تفتح عينيها رغم اوجاعها وحزنها البريء؛ إنها ارادت من هذا الفعل والحركة أن ترى هؤلاء القادة العرب والمسلمون وهم يتبادلون نخب وتهاني عيد الأضحى المبارك، وتسأل في ذاتها على ماذا تُرى يهنئون بعضهم البعض وهناك شعوبٍ عربية ومسلمة يتم قتلها وتهجيرها وتدمير مدنها في كل لحظة من هذا الزمن؟!!.

 

ماذا تبقَّى من روحِ إنسانيةِ لدى شعوب تلك البلدان التي يقتل قادتها وجنرالاتها الأطفال والنساء والشيوخ في مراقدهم ومخادعهم الآمنة، في الأحياء والشوارع المدنية في صنعاء وتعز وصعدة وذمار و إب والحديدة وقبلها في عدن و شبوة ولحج وأبين؟.

 

ألم تتكرر المجازر الدموية بحق اليمنيين طيلة عامين ونصف وهي عديدة وتعد بالمئات، وكان آخرها في الأيام المباركة من أيام الله الحُرُم قُبيل وأثناء و ُعيد عيد الأضحى المبارك — أرحب، فج عطان، قرية المساجد — ولازال الحجاج المسلمون يؤدون مناسك وشعائر الحج في الأماكن المقدسة، والطائرات المِغيرة تنطلق من أراضي من سُمِّي بخادم (الحرمين الشريفين) محملة بكل أنواع الأسلحة التقليدية والمحرمة دولياً، أي تناقضٍ صارخ؟!!.

 

دماء اليمانيون وأرواحهم الطاهرة هي من ستقتلع هؤلاء الطغاة من أرض الجزيرة العربية وكونهم عملاء وأعوان المستعمرين القدامى والجدد امثال البريطانيون والامريكان والصهاينة الاسرائيليون، قرب الزمان إن بعد، وستجتمع إرادة الله وقوة وصلابة المقاتل اليمني، والله أعْلَم مِنّا جميعاً.

  

﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾


المصدر: اليمن في مواجهة عاصفة الحزم ( المجلد الثالث)

ليست هناك تعليقات