تحميل كتاب نقد الاقتصاد السياسي - مؤسسة دار إبن حبتور للعلوم و الثقافة و التوثيق الخيرية

تحميل كتاب نقد الاقتصاد السياسي

 


"تلك السطوة الكنسية، الطاغية على عالم القرون الوسطى، سوف تتفتت عبر ثلاث مراحل تاريخية تبدأ بالاحتجاج وتمر بالفصل بين الدين والدولة وتنتهي بالموقف الرفض للدين نفسه. فخلال ألف سنة تقريبًا لم تعرف الهيمنة الشاملة للكنيسة الرومانية على روح المجتمع الأوروبي وعقله أي خروج عليها إلا في أوائل القرن السادس عشر حينما تزعم مارتن لوثر (1483- 1546)، حركة الإصلاح الديني محتجًا على احتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس، معلنًا أن الخلاص سيكون بالإيمان وليس من خلال رجال الدين، وكلاء الرب، الَّذين قاموا ببيع صكوك الغفران. وإذا كانت حركة مارتن لوثر، الَّتي أسست البروتستانتية كتيار إصلاحي مضاد للكاثوليكية، بمثابة خطوة أولى في سبيل عزل الكنيسة الرومانية اجتماعيًا وتصفيتها على الأقل معنويًا، فإن صلح وستفاليا (1648م) سوف يمثل الخطوة الثانية في نفس الاتجاه. فبعد صراع دموي بين الكاثوليك والبروتسانت، بل وبين جناحي البروتستانتية ذاتها، اللوثرية والكلفنية، دام عشرات السنين وأسفر عن آلاف المذابح وملايين القتلى، تقرر رسميًا مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بصفة خاصة من قبل السلطة الكنسية، مع إدانة، ومن ثم منع، فرض الأمراء لأي دين أو مذهب على اتباعهم. بصفة خاصة الأمراء الألمان. حينئذ شعر الأوروبي ولأول مرة بالحرية. كما أدرك الضمير الأوروبي أن الصراع الديني لم يكن سوى صراعًا مقيتًا على السلطة والذهب. ومن ثم توجه الضمير الجمعي صوب العلم لإعادة فهم العالم بعيدًا عن الدين والكهنوت والوصاية الكنسية، وبالتالي ضعف نفوذ الكنيسة الرومانية القائم بالأساس على خلق الوعي الزائف. تساوق كل ذلك مع اضمحلال الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتراجع نفوذ الإمبراطور الروماني نفسه بعد أن فقد حوالي100,000 كم2 في الأراضي المنخفضة عقب إعلان استقلال هولندا، وكذلك سويسرا، عن الإمبراطورية المقدسة، مع توسيع السويد لنفوذها في الشمال. بالإضافة إلى تشظي السلطة بين مئات الأمراء الألمان الَّذين أعلنوا استقلالهم وتم الاعتراف القانوني بسلطاتهم. أما الثورة الفرنسية (1789م)، والَّتي كانت كذلك خطوة مهمة في مواجهة استبداد ملوك وأمراء غرب أوروبا، فهي الخطوة الثالثة في سبيل تفتيت نفوذ الكنيسة الرومانية. فمع الثورة الفرنسية فقد الدين سطوته خارج أبواب الكنائس؛ فلقد تحررت الحياة الاجتماعية من طغيان وكلاء الرب. والواقع أن الرفض الجمعي للمسيحية، ككهانة وديانة، لم يكن نتيجة لمراجعة علمية بل كان نتيجة لظروف اجتماعية عصيبة أدت إلى مقت سطوة رجال الدين، وهو ما استتبع العمل بلا هوادة من أجل تفتيت قوة المؤسسة الدينية برفض وجود الدين نفسه. وبالتالي لم يعد مقبولًا أي طرح ديني، أو تفسير لاهوتي، لأي ظاهرة اجتماعية أو طبيعية.



ليست هناك تعليقات