أهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة: قمة الإستراتيجية الأمريكية الممتدة (ج1) - مؤسسة دار إبن حبتور للعلوم و الثقافة و التوثيق الخيرية

أهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة: قمة الإستراتيجية الأمريكية الممتدة (ج1)

 

أهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة:

قمة الإستراتيجية الأمريكية الممتدة . (ج1)

بقلم: أحمد عز الدين


(1)

لا أمريكا الطيبة الصديقة ذهبت ، ولا أمريكا الشريرة العدوّة أتت ، ولا العكس بالعكس ، فكل ذلك لا يعدو أن يكون تمييزا بين الوجوه ، وخلطا بين المسارات والمراحل والتكتيكات ، فوق قضبان إستراتيجية مضادة واحدة ، وشأننا في ذلك شأن أحد الوجوه البائسة في رواية (الغثيان) لسارتر ، الذي كان يرى أن الخوف من جهنم أكثر تأثيرا في قوة الإيمان ، من الطمع في الجنة ، والواقع أننا نتقلّب أو نُقَلّب على هذين الوجهين للإيمان بأمريكا ، فقد انتهت مرحلة الطمع الوهمي في جنة أمريكا ، وبدأت مرحلة الخوف الغريزي من نار أمريكا ، لكن الخشية أن يثقل الخوف ميزان الإيمان بأمريكا في المرحلة الثانية ، أكثر منه في الأولى .

(2)

من المدهش مع ذلك أنه كلما فاجأتنا المتغيرات العاصفة في البيئة الدولية أو الإقليمية ، كلما سعينا إلى إنتاج خطاب موحد تجري مفرداته في تيار واحد ، هو تخفيض درجة الإحساس الوطني بالخطر ، وهو خطاب أكثر خطرا من الأخطار التي يسعى جاهدا إلى نفيها ، لكن صياغة مفردات الخطاب ، ربما كانت هذه المرة ، أكثر ركاكة وتسطحا .

لقد خرج علينا – مثلا – محلل يعمل في قناة السي بي سي ليبدد المخاوف من ألإدارة الأمريكية الصاعدة ، مؤكدا أن غاية جهدها وقدرتها ، أن تمتد يدها لتلعب في أنف مصر أو أذنها ، وكأن على المصريين بالتالي أن يطمأنوا إلى أن يدها لن تمتد إلى أماكن حساسة أبعد من ذلك .

وخرج علينا آخر – مثلا – على قناة أخرى ليبدد المخاوف ذاتها ، مؤكدا أن أمريكا قد ضعفت ، حد أنها لم تعد في معادلات القوى الدولية قادرة على أن تلحق ضررا أو أذى .

وخرج ثالث ورابع ، ليكرر كلاما مشابها ، من حيث التحديد غير المحدد ، والتدقيق غير الدقيق ، لكن الإشارة التي بدت لي ملفتة ، بقدر ماهي مزعجة ، فقد كانت خروج السيد عمرو موسى ، على قناة سعودية تحمل اسم مصر ، حيث أعاد تكرار مفردات الخطاب ذاته ، إذ سيمكن للحوار أن يؤدي إلى التوافق شرط أن يكون العشاء تاليا على الغذاء ، وأن يكون استثمار اللوبي الإماراتي في أمريكا حاضرا ، والمشكلة في ذلك ليست أن اللوبي الأخير قد استنفد تماما ، وأنه أغلب الظن في انتظار نوع من العقاب ، ولكن في أولئك الذين يتصورون في ارتباكهم وحيرتهم أن لدى الرجل ما يقدمه ، خصما من رصيد مصر ، على شاكلة ما قدمه في ليبيا ، نزوعا إلى حلمه الرئاسي ، مع أن كلا الأمرين قد تهاوى ، رغم أن الحلم فيما يبدو مازال يعشش في رأس صاحبه .

(3)

ماذا – أولا – عن جنة أمريكا ، التي عشنا في ظلها سنوات أربع ، والتي ستغلق أبوابها بعد ذهاب ترمب ؟

إن الحديث في هذه المرة موصول بمصر ، وإن كان يتسع في مرات تالية ، لتأثير ظاهرة ترمب وما بعدها على الشرق الأوسط ، وعلى أمواج العالم المتغيرة المتلاطمة من حوله ، وفيما يتعلق بمصر فإنني سأستبق ما سيأتي بالتفصيل تاليا ، بالتوقف أمام قضيتين جوهريتين ، كاشفا أكثر لطبيعة هذه الجنة الوهمية بحسابات الأمن القومي ، لا بغيرها من الحسابات ، الأولى هي الدور التركي في الإقليم ، والثانية هي سد النهضة .

بالنسبة للدور التركي ، أو دور أردوغان تحديدا ، فإنني سأعرض ما يبدو لي موثقا على النحو التالي :

1. وفقا لمصادر مسئولة في البيت الأبيض والسي أي إيه ، عن المهاتفات السرية لترمب ، فإن أكبر عدد من هذه المكالمات كانت من نصيب أردوغان وحده ، قياسا إلى نصيب أي رئيس دولة آخر ، وأن ترمب أعطى أوامر مستديمة بنقل أي اتصال من أردوغان إليه مباشرة ، في أي وقت وأي ظروف .

2. وفقا للرئيس الفرنسي ماكرون فإن ترمب ، هو الذي شق الطريق أمام أردوغان ، وأن دور أردوغان في هذا الإطار ، لم يكن أكثر من ( حصان طروادة ) أمريكي في الشرق الأوسط .

3. وفقا لماكرون أيضا ، فإن أردوغان عرض على البيت الأبيض ( كوندومنيوم ) أي حكم ثنائي تركي – إسرائيلي ، لإدارة الشرق الأوسط ، وأن ذلك كان في موضع أقرب إلى التوافق بين الطرفين .

4. إن الدور الذي كان يقوم به أردوغان ، في خلخلة النظام الإقليمي العربي لصالح تركيا وإسرائيل كان مدروسا ، وتحت التوجيه المباشر من ترمب ، وإذا كان المطلوب شهادة موثقة على ذلك ، فتلك نصا شهادرة ( بولتون ) مستشار الأمن القومي السابق ، في كتابه الاخير عن عمله إلى جوار ترمب في البيت الأبيض ( إن أردوغان نجح في الوصول إلى ما يبتغيه ، من الإدارة الأمريكية في كل القضايا التي تقع تحت سلطة ترمب ، ولم يشعر ترمب بالانزعاج من مواقف أردوغان إلا مرة وحيدة ، هي عندما رفضت تركيا إطلاق سراح القس " أندرو برونسون " )

5. في المحصلة النهائية فإن أردوغان في كافة تحركاته لبعثرة الشرق الأوسط ، جيوسياسيا وجيواستراتيجيا ، سواء في شرق المتوسط ، أو في محاولة خلق تهديد وجودي لمصر في ليبيا ، أو تمزيق وحدة سوريا والعراق ، كان أجبن وأضعف من أن يكون مدفوعا بإرادة ذاتية بعيدا عن إرادة ترمب ذاته ، وفي إطار مفهوم حكم تركي إسرائيلي للشرق الأوسط ، أما محاولة إيقافه في كل مرة ، إما أنها تمت بضغط من البنتاجون ، بعد أن تجاوز حدود مبادئ الاستراتيجية الأمريكية ، وإما لأنه تم تسويقها من جانب ترمب نفسه ، في إطار صفقات رابحة .

6. لهذا لم يجد أردوغان بديلا بعد ظهور شبح بايدن ، سوى أن يخلع ثياب الحرب ، ويسارع بارتداء ثياب السلام داعيا إليه مع الجميع ، كأنه مبعوثه الجديد ، فقد انتهى دور حصان طروادة الأمريكي ، الذي تقمصه ، ولم تتحدد بعد ملامح دوره القادم .

(4)

أما بالنسبة لقضية سد النهضة ، فقد انسلت من حديث ترمب التليفوني عن السد ، تعليقات وتفسيرات ، كان يمكنك أن ترى فيها ألوان الطيف ، في متوالية بدأت باللون الوردي ، وانتهت باللون الداكن ، فقد بدأ انسلال اللون الوردي في عبارات تحتل معاني إيجابية للغاية ، على شاكلة أنها تحمل تهديدا لأثيوبيا ، وتشع تقديرا لموقف مصر ، وتفهما لأضرار بالغة ، لا تستطيع التعايش معها ، كما أنها تمنح مصر مشروعية لاستخدام القوة المسلحة ، ثم سرعان من انسلت ألوان أكثر قتامة ، رأت في حديث ترمب مصيدة تشكل تحريضا لمصر على استخدام القوة المسلحة في مغامرة غير محسوبة .

وفيما أحسب فإن أي من هذه التعليقات أو التفسيرات لم يكن يعكس تقديرا صحيحا .

فالملاحظ – أولا – أن صيغة الإعلان أو الخطاب ، كانت غير مسبوقة ، فمفرداته كلها قد تم حقنها في حديث تليفوني بين شخصين ، فلا هي تمثل موقفا رسميا ، ولا بيانا ، ولا مرجعا ، ولا وثيقة .

والملاحظ – ثانيا – أن الخطاب انتهى إلى مخرج آخر ، وهو تسليم راية الحل إلى رئيس وزراء السودان ، الذي مكث في إثيوبيا طويلا ، وجاءت به أمريكا لحكم السودان .

والملاحظ – ثالثا- أن ترمب قد دافع عن موقف أمريكا ، واعتبر أنها قد قدمت لمصر غاية ما تستطيع إليه سبيلا ، فقد أنجزت اتفاقا رفضته إثيوبيا ، بعد أن وقعت عليه مصر ، فبادرت أمريكا إلى عقابها على موقفها بتجميد المساعدات الأمريكية لها ، لكنه لم يذكر حجم هذه المساعدات التي شكلّت عقابا رادعا لإثيوبيا ، لأنها لا شكلّت عقابا ولا رادعا ، فلم تتجاوز مبلغ 130 مليون دولار .

والملاحظ – رابعا – أنه في توقيت سابق ، وقع صندوق التنمية السعودي اتفاقية مع إثيوبيا ، تحصل بموجبها من السعودية على مبلغ 140 مليون دولار ، من أجل دعم مشروعات التنمية والبنية التحتية في إثيوبيا ، فيما قد يبدو تعويضا عن العقوبة الأمريكية الرادعة مقدما .

والملاحظ – خامسا – أن المحصلة النهائية لذلك كله قد تعني شيئا واحدا ، وهو أن ترمب في إعلانه التليفوني ، أراد أن يعلن عن غسل يده ويد أمريكا من قضية السد ، وأنه يترك مصر على حافة الأزمة بين خيارين ، كلاهما مر .

(5)

فيما أحسب فأننا أمام إستراتيجية أمريكية ممتدة ، مهما تعددت المراحل والوجوه والأدوات ، وبقدر قدرتها على أن تعيد تجديد نفسها في ضوء بيئتها الداخلية ، والبيئة الإقليمية والدولية من حولها ، بقدر ما تمتلك قوة دفع جديدة للحركة فوق قضبانها ، وبقدر قدرتها على تجريد خصومها من المناعة الذاتية ، ومن أسلحة المقاومة الشعبية ، بقدر نجاحها في الاقتراب أكثر فأكثر من أهدافها.

وفيما أحسب أيضا ، أن عنصرا ما يظل على الرغم من كل المتغيرات ، قابلا لأن يربط النتائج بمقدماتها ، والثمار بجذورها ، وإذا كانت الولايات المتحدة قد دفعت قاطرة استراتيجيتها منذ البداية فوق قضبان محددة ، شكلها تقرير مؤسسة – راند – قبيل الفتح الاستراتيجي لضرب العراق ، فإن علينا أن نعيد قراءة التقرير الذي لم يكن خاصا بالعراق ، وإنما بالإقليم ، فقد اعتبر ضرب العراق مدخلا طبيعيا للاستحواذ على الإقليم ، محددا أهداف الاستراتيجية في مرحلتها الأخيرة على أساس أن السعودية هي ( الهدف الاستراتيجي ) وأن مصر هي ( الجائزة الكبرى ) .

وفيما أحسب – أيضا – فإن الإستراتيجية الأمريكية ، تتأهب للدخول في مرحلتها الأخيرة

وللحديث بقية

بقلم: أحمد عز الدين


ليست هناك تعليقات