باصُرَّه الإنسان الذي ترك خلفه إرثاً وتُراثاً للأجيال
باصُرَّه الإنسان الذي ترك خلفه إرثاً وتُراثاً للأجيال
أ.د عبدالعزيز صالح بن حبتور
حينما عرض علي الفريق الإعلامي في مجلس الوزراء برئاسة الاستاذ / فضل العليي(أبو الفضل) السكرتير الاعلامي لرئاسة مجلس الوزراء، مُسوَّدة كتاب التأبين للفقيد الراحل العزيز البروفيسور/ صالح علي عمر باصره (أبا شادي) رحمة الله عليه، كنت مسروراً بالإنجاز النوعي للكتاب الذي أنجز في زمن قياسي وبتنسيق طباعي جيد واخراج نوعي أنيق، هذا العمل التوثيقي التاريخي حول الفقيد في ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاته يعد عملاً كبيراً يستحقون عليه الثناء والتقدير والاحترام.
الشكر موصول للاخ العزيز / شادي صالح علي باصره ابن الفقيد الذي بعث إلينا بالعديد من مقالات المراثي والتعازي من أصدقاء ومحبي الفقيد ، وعدداً من الموضوعات المسجلة كحوارات سياسية وفكرية من اعمال الفقيد في رحلة مسيرته العلمية وتجربته السياسية الثرية ٠
تعود البدايات لمعرفتي بالصديق الوفي/ صالح علي باصره/ قبل نحو أربعة وثلاثين عاماً تقريباً ، أي منذ أن كنّا طلاباً في الدراسات العليا في جمهورية المانيا الديمقراطية سابقاً ، كان التعارف للوهلة الاولى فيما بيننا سهلاً وسلساً للغايه ، كوّن ما يجمعنا من مشتركات الزمالة كمعيدين في جامعة عدن وزمالة الدراسة في مدينة لايبزج الألمانية الشهيرة وجامعتها العتيده ، والموقف السياسي الوطني ، جميعها عوامل سهلت في تطوير العلاقة والزمالة وتحديد المواقف فيما بيننا بشكلٍ سريع ٠
شاركت معه في العديد من اللقاءات الثقافية والاجتماعات الحزبية والمحاضرات والزيارات في جامعة لايبزج وسافرنا معاً إلى سفارة بلادنا آنذاك ( اليمن الجنوبي ) في تلك الفترة من تاريخ الوطن ، وكنا نزور معاً بأستمرار الصديقين العزيزين سعادة السفير/ عبدالوكيل بن إسماعيل بن محيي الدين السروري/ سفير اليمن الجنوبي رحمة الله عليه، وسعادة السفير / حسن بن علي عليوه/ أمدَّ الله في عمره وزاد من صحته، كنّا نزورهم إلى مبنى السفارة في برلين الشرقية ، وحتى في يوم دفاعه عن أطروحته للدكتوراه في مجال التاريخ كنّا والعديد من الأصدقاء حاضرين معه وإلى جانبه ، انها رحلة عمر أمتدت لأزيد من ثلاثة عقود كانت حافلة بالعديد من الاحداث والمواقف والصداقات العمل المشترك والرحلات الخارجية المشتركه.
صديقي العزيز/ صالح علي باصره، ليس إنساناً عادياً بالمطلق أكان في حقل الادارة الأكاديمية أوالسياسة أو في رصد احداث التاريخ، تشهد على ذلك مسيرته المظفرة بالانجازات المحققة على صعيد التجربة ، دعوني اجتهد في سرد رحلة النجاح الإبداعية بعيداً عن لغة العواطف ، مع انها لغة تثير لدي شخصياً العديد من الأشجان والأحزان تجاه شخص جميل المعشر وصادق النوايا وثابت الرأي والموقف كالجبال الرواسي وفي مواقفه الشخصية والوطنية والإنسانية ، لنسرد قصة رجل مواقف شجاعه لانسان من هذا الزمان الذي لازلنا جُزءاً منه :
اولاً: سيرته العطرة في الموقف الحزبي الذي انتمى إليه:
بدأ الصديق/ باصره/ حياته الحزبية التنظيمية عضواً ناشطاً قوياً في حزب البعث العربي الاشتراكي ويشهد على ذلك رفاقه الذين لازالوا احياء يرزقون، انتسب إلى الحزب في مدينة المكلا بحضرموت منذ ان كان طالباً في المرحلة الثانوية وانتقل بملفه التنظيمي إلى مدينة عدن حينما بدأ دراسته في جامعة عدن بكلية التربية العليا ، وانتخب عضواً قيادياً في مجلس طلاب جامعة عدن عن حزب البعث ، وبعد اتفاق ،،،،،،، عام 1975م فيما أُسمي آنذاك باتفاق فصائل العمل الوطني لتشكيل التنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية بين الثلاثة الفصائل وهي التنظيم السياسي للجبهة القومية (فرع حركة القوميين العرب في اليمن) ، و حزب الطليعه الشعبية (فرع حزب البعث العربي الاشتراكي ) ، والاتحاد الشعبي الديمقراطي (فرع اليسار العالمي الحليف لموسكو )٠
كان الفقيد/ باصره /عنصراً فاعلاً مؤثراً في كل هذه المسيرة الحزبية المُضنية ، خاصة اذا ما عرفنا بان العمل الحزبي محرم على فصائل العمل الوطني باستثناء حزب السلطة الشمولية التوتاليتارية والشعار المعروف آنذاك ( كل الشعب قوميه ) اَي ان العمل الحزبي ممنوع إلا لمن انتمى لصفوف تنظيم الجبهة القومية ، ماعداه فالسجون والتعذيب والاخفاء القسري مصيرهم لا محاله٠
ثانياً: في اثناء دراستنا بالخارج كما أسلفنا ظهر انشقاق كبيراً بين أعضاء الحزب الاشتراكي اليمني جراء الاحداث التراجيدية لكارثة 13 يناير 1986م ، وكنا معاً في منظمة حزبية واحده في مدينة لايبزج ، ولسوء حظنا هو وكتلة كبيرة تصل إلى مانسبته 50% من الأعضاء في منظمتنا القاعدية الاشتراكية ننتمي إلى الفريق المهزوم!!! ، وكنا في صف جماعة الرئيس الأسبق/ علي ناصر محمد/ ، وحينما جاء ( الرفاق ) المنتصرين!!! أرادوا تصفية الحسابات الخاصة بهم بواسطة إجراءات حزبيه صارمة من اروقة قاعات الاجتماعات الحزبية ، لكن الفقيد/ صالح باصره/ كان على رأس فريق من الرفاق المدافع بشراسه واقتناع عن موقفه الحزبي الذي رأوه صائباً في تلك المرحلة ، وأتذكر منهم الفقيد محمد أحمد لكو ، رشيد صالح جعسوس ، ابتهاج سعيد الخيبة ، سعيد محمد اليماني ، عبدالرحمن عبده الصبري ، والبيضاني حسين الثرياء العوذلي ، وعبدالقادر حسين الكاف ، وسالم علي ألباني ، ومهدي حسين جعبل الفضلي ، وصالح محمد الجبواني ، ومحمد اسماعيل السروري ، وعلي احمد السلامي ، ومحمد احمد فلهوم ، وطالب السلامي وعبدالله سعيد حزام ، وإقبال سعيد العلس ، ومحمد سالم بن بريك ، وصالح حيدره محسن المرقشي ، والبطاني ،. عبدالوهاب محمد المسيبلي ، وعلوي عمر مبلغ ، وعبدالكريم عبدالله العزعزي وانا والعديد من الزُملاء الذين لم أعد اتذكرهم للاسف ٠
ويذكر هنا معي الزملاء الأفاضل بان الفقيد/ صالح علي باصره/ كان على رأس هذا الفريق مدافعاً شجاعاً وصلباً عن ذلك الموقف الذي حددوه وفقاً لذلك الزمان٠
ثالثاً: كان للفقيد موقفاً حازماً من قضية انفصال الجنوب اليمني عن الوطن اليمني كله ، ولكنه في ذات الوقت كان ناقداً بشراسه تلك الممارسات الخاطئة التي كان يمارسها البعض مِمَّن يدّعُون انهم يمانيون وحدويون ، وكان صوته ورأيه مرفوعاً في كل اللقاءات والاجتماعات الحكومية والحزبيه ، ولكنه في ذات الوقت وقف بحزم ضد البعض من قيادة الحزب الاشتراكي الذين قرروا قرار الانفصال ، وأتذكر انه بعد هزيمة المتمردين في قيادة الحزب الاشتراكي في 7 يوليو 1994م كُلّف من قبل قيادة المؤتمر الشعبي العام بان يقود ويرأس فرع المؤتمر الشعبي العام بجامعة عدن ، وبعدها مباشره عُين كرئيس لجامعة عدن ، وانتخب عضواً باللجنة الدائمة الرئيسيّة في عام 1995م وحمل معه شرف هذه العضوية إلى يوم وفاته ، وكان واضحاً في موقفه المنحاز لليمن الموحد دون ان يظلم اليمنيين من المحافظات الجنوبية في أية تسويات سياسية قادمه، ولعب دوراً هاماً في تطبيع الأوضاع السياسية والأمنية والتموينية في عدن وبقية المحافظات المجاورة بعد الاحداث مباشره ٠
رابعاً: منذ أن تقلَّد المناصب القيادية الرفيعة في رئاسة جامعة عدن ، ورئاسة جامعة صنعاء ، ووزير التعليم العالي في حكومتي دولة الرئيس/ عبدالقادر باجمال/ ، ودولة الرئيس/ علي محمد مجور/ ، كان يمارس مهامه القيادية والإدارية اليومية باقتدار عال ، ومن خصائص الرجل انه متابعاً حصيفاً للجامعات وحتى الكليات وعمل على تطوير اللوائح والنظم فيها وحيث ما حل في منصب ما ، لقد كان ادارياً من الطراز الرفيع رحمة الله عليه٠
خامساً: زرت وإياه العديد من البلدان العربية وبلدان العالم وزرنا العديد من الجامعات العربية والاجنبية ووجدته حريصاً على ان يعقد الاتفاقيات الأكاديمية والتعليمية بُغية تحقيق الفائدة لجامعة عدن وصنعاء ولبقية الجامعات اليمنية حينما تولى قيادة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، واقنع الجامعات العربية بإرسال أفضل الاساتذة الكبار من الجامعات العراقية والسورية والمصرية والاردنية الفلسطينية والسودانية وقد كان هؤلاء الأساتذة العرب الكبار عونا لجامعاتنا اليمنية في مرحلة النهوض والارتقاء الأكاديمي ، وأتذكر ان آخر رحلة أمضيناها معاً ، (وكانت ايّاماً جميله) هي زياراتنا للجامعات في المجر وتركيا وأذربيجان ٠
سادساً: بعد ان حلت التسوية السياسية بين الفرقاء الحزبيين في اثناء وبعد الأزمة السياسية في العام 2011م ، تم إصدار قرار من قيادة المؤتمر الشعبي العام بان نكون أعضاء في اللجنة السياسية الفنية التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني (الفقيد وانا) وأمضينا معاً قرابة الثمانية أشهر نعمل معاً ليلاً ونهارا حتى أنجزنا وثيقة مشروع خارطة الطريق لعمل ونشاط مؤتمر الحوار الوطني الذي انتهى بالخروج بمقررات وطنيه متفق عليها ، وكان الرجل من أعمدة ودهاة ذلك الحوار الوطني الشامل ، ولولا حرب العدوان والذي لازال مستمراً بضرواه حتى هذه اللحظة لتحقق للشعب اليمني مايصبوا اليه من حل سياسي جامع يضمن لليمن استقراراً دائماً ٠
سابعاً: جاء العدوان السعودي والإماراتي وفرق بيننا جغرافياً وبقي هو في عدن وانا انتقلت للعاصمة صنعاء، وبعدها تنقل بين ماليزيا والأردن وبعدها عاد إلى عدن، وتنقل إلى اكثر من موقع ومكان في اليمن على امل أن ينتهي العدوان وتعود الحياة إلى وضعها الطبيعي لكن دون جدوى إلى أن فارق الحياة في مدينة عمان.
أتذكر انه حينما كنت أمارس مهامي اليومية في عدن قُبيل العدوان بأسابيع ، تحدثت اليه مراراً بشأن أمور وطنية عديده ، ووجدت منه ملحوظات قيمه في الشأن الوطني ، وكان قلقا على مستقبل اليمن إذا ما انزلقت إلى أتون حربٍ أهليه ، كان يتحدث معي وهو يقرأ من صفحات التاريخ اليمني كمؤرخ حصيف ، يعرف المأساة الانسانية بأبعادها كما يعرف انه بسقوط مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية فان الغوغاء والدهماء هم من سيسودون الشارع ويقودون ماتبقى من مؤسسات ، له تجربة عميقة محصنة بوقائع التاريخ في القراءة والتحليل ، وبعد اندلاع شرارات الحرب وبدء العدوان واشتداد الضربات الجوية كنّا نتحدث معاً عبر الهاتف ، وطلبت منه ان لا يبقى في مكان تواجده خوفاً على حياته لكنه فضل البقاء في منزله بحي خورمكسر إلى ان اشتد به المرض وغادر إلى عمّان الاْردن ليلقى ربه هناك شامخاً مرفوع الرآس قنوعاً بما قسمه الله له من نصيب في هذه الدنيا الفانية ، كم أحزننا فراقك يا ابا شادي وانت الصديق الوفي وصاحب الموقف والرأي الشجاع وانت من تركت للأجيال تراثاً وإرثاً مكتوباً ومحكياً سيبقى مرجعاً لهم لقرون من الزمان ، نسال الله العلي القدير ان يتولى صديقنا العزيز البروفيسور/ صالح علي باصره/ أبا شادي بواسع رحمته وان يسكنه مع الصديقين والنبيين والشهداء في دارالخلود الأبدية في الفردوس الأعلى من الجنه وان يلهم زوجته الفاضلة وأبنه شادي الوفي وبناته الكريمات وأصدقائه ومريديه وطلابه الصبر والسلوان و إنَّا لله وانا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والله اعلم منا جميعاً، بسم الله الرحمن الرحيم (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي )) صدق الله العظيم.
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾
أضف تعليق