أ. د. عبدالعزيز صالح بن حبتور
تتكرر الفاجعة المحزنة علينا في هذه الأيام بشكل أسبوعي وأحياناً بشكلٍ يومي، تارةً نفقد طبيباً كبيراً، وتارةً أُخرى مثقفاً ألمعياً، ومرةً أُخرى شيخاً مجرباً، ومرةً ثانية وثالثة عالماً وفقيهاً ذَا صيتاً طيباً في محيطه الاجتماعي، أمَّا الوسط الاكاديمي فقد أُثخن بجراح الفقدان كثيراً، نعم هي مشيئة اللَّه جلَّ في عُلاه ولكل أجلٍ كِتاب، لكن من التجربة الإنسانية المتوارثة تدلنا المعلومات والبيانات بأنَّ الحروب والجوائح تحصد من بُني الإنسان الأعداد المهولة دون حساب، واليمانيون اليوم يعيشون الجائحتين في زمنٍ واحد ومتلازم، وهي جائحة عدوان الأَعْرَاب وفايروس كورونا (كوفيد-19)، فكيف إذا ما حسبنا بأنَّ ثالثة الأثافي وهي نقص الإمكانيات والخدمات الطبية وغيرها، والحمد للّه رب العالمين، فإنَّ ما يحدث لنا اليوم هو قدرٌ ومكتوب.
لذلك فإنَّ حُزننا هُنا مُضاعف على فقدان تلك الكوكبة من الأصدقاء والزملاء الأعزاء — وفقدان أساتذة في جميع الاختصاصات ومن بين خيرة الكوادر المؤهلة وذوي تجربةٍ واسعة في مجال البحث العلمي والتعليمي — نعم شعرنا بأنَّ نزيفٌ حاد قد أصابنا في خسارة العقول والتجارب، وهي ذات قيمةٍ أساسية للجامعات اليمنية، خاصةً ونحن على مشارف احتفالات جامعتي صنعاء وعدن بمرور خمسين عاماً على تأسيسهما، أي أنهما تعيشان مرحلة اليوبيل الذهبي، هذا العمر الطويل نسبياً قدَّمت عبره الجامعات نخبة من العلماء، والاختصاصيين، والباحثين المؤهلين في مُعظم حقول المعرفة وإختصاصاتها.
في خضم هذا الزمن الصعب الذي تعيشه اليمن والتي تكالبت عليه دول يفترض بأنَّها (عربيةٌ شقيقةٌ مسلمة) مارست واقترفت كُل ألوان وصنوف العداء للشعب اليمني في شماله وجنوبه، مِن قتلٍ وتهجيرٍ وانقطاعٍ في الراتب والخدمات بجميع مفرداتها، تلك الدولتان المعتديتان علينا حاربتنا عسكرياً وأمنياً ومعيشياً في ابشع صُورة من صُور العدوان، ولهذا نحن نفقد أعزاءنا وأحبابنا بسبب كل صنوف العِداء بما فيه تدمير مستشفياتنا التي كانت تُقدم الحد الأدنى من الخدمات، اليوم وبعد تعطيلها فقدنا ما فقدنا من ثروتنا البشرية العلمية المتراكمة لعقودٍ من الزمن، وهي ثروة اليمن الحقيقة.
نعود إلى فقيدنا الغالي، داعية حقوق الإنسان، رائد الفكر الفلسفي العروبي اليساري الذي أسس لمدرسةٍ مدنيةٍ مسالمةٍ في مدينة عدن هو وكوكبة من زملائه أمثال الفقيد الدكتور أحمد الكازمي الدرجاجي والسفير/ عبدالوكيل بن إسماعيل السروري والسيدة إلهام عبدالوهاب، والعديد من المثقفين غيرهم الذين أسسوا المداميك الأولى لحركة السلم والتضامن وحقوق الإنسان في عدن.
البروفيسور ناصر علي ناصر الكازمي (أبا مازن) رحمة الله عليه، ينتمي للجيل الأول من الفدائيين المنتسبين لطلائع الثوار في الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المُحتل من قبل المستعمر البريطاني، لكنه كان كغيره من الأحرار الذين لا يطلبون مقابل نضالهم، لا مال ولا منصب ولا امتيازات، هكذا هم شرفاء اليمن الذين ناضلوا وجاهدوا من اجل الوطن، لا من اجل المكاسب المادية والوجاهية، مع أنه مهيأ بشكلٍ كامل لأي منصب قيادي في هذا الوطن من النواحي العلمية والثقافية والنضالية، علاوةً على الإرث القبلي الجهوي الذي يتمتع به، لكنه وبحذق وفراسة المناضل السياسي الصلب فضَّل العمل في المجال المدني السلمي.
امتاز البروفيسور علي ناصر بثقافة وطنية يمنية وحدوية واسعة، عززها بالفكر الفلسفي الإنساني العالمي، ووقف بصلابةٍ ضد دُعاة الانفصال السطحيين الساذجين، كما وقف ضد فوضى ما سُمِّي بـ (الربيع العربي) الذي قاده الإخوان المسلمين، وعمل بثقة وهدوء طيلة زمن ما سُمَّي بالفوضى الخلاقة إلى جانب زملائه وأصدقائه، وكان يُردد في جميع مقابلاته الحوارية الناضجة بأن الأوطان لا تُبنى بسياسة المقاولات الحزبية والمناطقية القروية، ولا بالأفكار السطحية المرتبطة بالمشاريع السياسية الإقليمية والتبعية للخارج.
تعود معرفتي بالبروفيسور ناصر مُنذ أنْ كُنت طالباً بكلية الاقتصاد والإدارة، وكان هو المشرف الحزبي علينا، وترأس العديد من المحاضرات والاجتماعات والحوارات، وكان من بين المثقفين القلائل الذين يستطيعون أن يقدموا إجابات منطقية وعلمية عن الموضوعات والأحداث في لحظتها.
أتذكر أننا اشتركنا وأياه في ندوات وحوارات معمقة حول أزمة الفكر والثقافة والهوية في عالمنا العربي، في عدد من المواقع والعواصم العربية كجامعة عدن، وبغداد، ودمشق والقاهرة، وكان كما يقول المثل الشعبي المصري بأن المفكر ناصر (مالي هدومه)، ثقافةً، ووعياً، وقدرةً معرفية ولُغوية هائلة، لقد كان عميق الفكرة الحوارية حينما كان يرد على السائلين والمحاورين، وكانت إجاباته ثرية بالمفردات اللُغوية الوازنة، وكانت تنقلاته الحوارية تتميز بالإلمام الشامل للموضوعات، كان حاذقًا بأصول الحوار والفكر، كُنت ولازلت معجب بأطروحاته المميزة، وكُنت أُردد دائماً للعديد من الزملاء والأصدقاء بالقول، لماذا لا تتعلمون من هذا البروفيسور الكازمي البدوي الذي تعمَّق كثيراً في الفكر الإنساني العام والثقافة العروبية اليسارية الإنسانية، وتوسَّع كثيراً في استلهام الفِكر الفلسفي للرواد الأوائل من الفلاسفة الإغريق وفلاسفة عصر التنوير الأوروبي إلى قراءة وفهم أصول الفلسفة لرواد ومفكري عصر النهضة العربية الإسلامية.
شغل منصب نائب عميد كلية الآداب وكذلك نائب رئيس الجامعة لشؤون الطلاب وقد أثبت جدارته الإدارية وكان في مستوى المسؤولية العالية، امتاز في تعامله الراقي مع زملائه وطلابه بالود الشديد والاحترام المتبادل، وبذلك كان يجسد روح القدوة لأجيال المستقبل، لقد حزن على فراقه القطاع الاكاديمي والطلابي الواسع في مدينة عدن وبقية المحافظات التي اسهم في تخريج أبنائها.
توفاه الأجل في مدينته عدن التي ستتذكر دوماً حركته ونشاطه وعلاقاته الإنسانية التي طالما كانت ثروته الحقيقية التي اهتم بها ورعاها، وهي القيمة الحقيقة الباقية الخالدة.
ترك لنا إرثاً إنسانياً واسعاً في مجال حقوق الإنسان وانجز العديد من الأبحاث الرصينة الوازنة في مجال الفلسفة نتمنى من المسؤولين وذوي القربى أن يجمعوا تراثه الفكري ليُطبع ويقدم للأجيال، لأنها بحق أعمالٌ علمية ذات قيمه، ندعو اللَّه عزَّ وجلْ أنْ يتغمد فقيد حركة السلم اليمني، وفقيد النخبة الأكاديمية بجامعة عدن، وفقيد طبقة المثقفين في مدينة عدن وأبين، بواسع رحمته واسكنه الفردوس الأعلى من الجنة ، وأنْ يلهم أهله وذويه وطلابه ومريديه بالصبر والسلوان، إنَّا للَّه وإنَّا إليه راجعون، بسم الله الرحمن الرحيم “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”، واللّه أَعْلمُ مِنَّا جَمِيعاً.
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾
رئيس مجلس الوزراء
أضف تعليق